ثامنًا: الوسائِلُ المُعينةُ على اكتِسابِ الحِلمِ
                                        
                                    
                                    
                                        ويُمكِنُ اكتِسابُ هذه الصِّفةِ مِن خِلالِ ما يلي: 
1- تذكُّرُ كثرةِ حِلمِ اللهِ على العبدِ؛ فاللهُ سبحانَه وتعالى حليمٌ يرى معصيةَ العاصي ومُخالَفتَه لأمرِه فيُمهِلُه؛ قال تعالى: 
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 235] . 
 قال 
ابنُ حبَّانَ: (الواجِبُ على العاقِلِ إذا غضِب واحتَدَّ أن يذكُرَ كثرةَ حِلمِ اللهِ عنه، معَ تواتُرِ انتِهاكِه محارِمَه، وتعدِّيه حُرُماتِه، ثُمَّ يحلُمُ، ولا يُخرِجُه غيظُه إلى الدُّخولِ في أسبابِ المعاصي) 
 [3744] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 212).  .
وقال مُحمَّدُ بنُ السَّعديِّ لابنِه عُروةَ لمَّا ولِي اليمنَ: (إذا غضبْتَ فانظُرْ إلى السَّماءِ فَوقَك، وإلى الأرضِ تَحتَك، ثُمَّ عظِّمْ خالِقَهما) 
 [3745] يُنظر: ((الإشراف)) لابن أبي الدنيا (ص: 218) رقم (249)، ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 212).  .
2- تذكُّرُ ما أعدَّه اللهُ تعالى للمُتخلِّقينَ بالأخلاقِ الفاضِلةِ، كالحِلمِ وكَظمِ الغيظِ والعَفوِ والإحسانِ؛ قال تعالى: 
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133- 134] .
عن أبي جَعفَرٍ الخَطْميِّ أنَّ جدَّه عُمَيرَ بنَ حَبيبٍ -وكان قد بايَع النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أوصى بَنيه، فقال لهم: (أي بَنيَّ، إيَّاكم ومُخالَطةَ السُّفَهاءِ؛ فإنَّ مُجالَستَهم داءٌ، وإنَّه مَن يحلُمْ عن السَّفيهِ يُسَرَّ بحِلمِه، ومَن يُجِبْه يندَمْ، ومَن لا يُقِرَّ بقليلِ ما يأتي به السَّفيهُ يُقِرَّ بالكثيرِ) 
 [3746] رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 234) رقم (25590)، والطبراني (17/50) (108)، والبيهقي (20705)، وثق رجاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/269).  .
3- التَّرفُّعُ عن المُعامَلةِ السَّيِّئةِ بالمِثلِ، وهذا يدُلُّ على شَرفِ النَّفسِ، وعُلوِّ الهِمَّةِ؛ يقولُ 
جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رضِي اللهُ عنهما: 
((غزَونا معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غزوةَ نَجدٍ، فلمَّا أدركَته القائِلةُ وهو في وادٍ كثيرِ العِضاهِ  [3747] العِضاهُ: كُلُّ شَجَرةٍ ذاتِ شَوكٍ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (15/44).  ، فنزَل تَحتَ شجرةٍ، واستظلَّ بها، وعلَّق سيفَه، فتفرَّق النَّاسُ في الشَّجرِ يستظِلُّونَ، وبَينا نحن كذلك إذ دعانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجِئْنا، فإذا أعرابيٌّ قاعِدٌ بَينَ يدَيه، فقال: إنَّ هذا أتاني وأنا نائِمٌ، فاخترَط سيفي  [3748] اخترط السَّيفَ: سَلَّه مِن غِمدِه. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/23).  ، فاستيقَظْتُ وهو قائِمٌ على رأسي مُخترِطٌ صَلتًا  [3749] صَلتًا: مجرَّدًا. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/45).  ، قال: مَن يمنَعُك منِّي؟ قلْتُ: اللهُ، فشامَه  [3750] فشامَه، أي: ردَّه في الغِمدِ. يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (21/ 269).  ، ثُمَّ قعَد، فهو هذا، قال: ولم يُعاقِبْه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم))      [3751] أخرجه البخاري (4139) واللفظ له، ومسلم (843).  .
4- التَّفضُّلُ على المُسيءِ، ومِن ذلك ما رواه 
أنسُ بنُ مالِكٍ رضِي اللهُ عنه؛ حيثُ قال: (كنْتُ أمشي معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعليه بُردٌ نَجرانيٌّ 
 [3752] البُرْدُ: نوعٌ من الثِّيابِ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/ 116). والنَّجرانيُّ: منسوبٌ إلى نجرانَ: وهي بلدةٌ باليمَنِ. يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (3/ 205).  غليظُ الحاشِيةِ، فأدرَكه أعرابيٌّ، فجبَذه 
 [3753] الجَبذُ: الجَذبُ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/235).  برِدائِه جَبذةً شديدةً، حتَّى نظرْتُ إلى صَفْحةِ عاتِقِ 
 [3754] صَفْحُ كُلِّ شيءٍ: وَجهُه وناحيتُه، والعاتِقُ: ما بين المَنكِبِ والعُنُقِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (15/ 73).  رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قد أثَّرَت بها حاشِيةُ البُردِ مِن شِدَّةِ جَبذتِه! ثُمَّ قال: يا مُحمَّدُ، مُرْ لي مِن مالِ اللهِ الذي عندَك، فالتفَت إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ ضحِك، ثُمَّ أمَر له بعَطاءٍ)  
    [3755] أخرجه البخاري (3149) واللفظ له، ومسلم (1057).  .
5- الاستِحياءُ مِن جزاءِ الجَوابِ، وكان الأحنَفُ بنُ قَيسٍ يقولُ: (مَن لم يصبِرْ على كلمةٍ سمِع كلماتٍ، ورُبَّ غيظٍ قد تجرَّعْتُه مخافةَ ما هو أشَدُّ منهـ) 
 [3756] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/279).  .
6- الرِّعايةُ ليدٍ سالِفةٍ وحُرمةٍ لازِمةٍ، وهذا مِن الوَفاءِ، وحُسنِ العَهدِ، وكمالِ المُروءةِ؛ عن حَفصِ بنِ غِياثٍ قال: (كنْتُ جالِسًا عندَ جَعفَرِ بنِ مُحمَّدٍ، ورجُلٌ يشكو رجُلًا عندَه، قال لي كذا، وفعَل لي كذا، فقال له جَعفَرٌ: مَن أكرَمك فأكرِمْه، ومَن استخفَّ بك فأكرِمْ نَفسَك عنهـ) 
 [3757] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (213).  .
قال الشَّاعِرُ:
إنَّ الوفاءَ على الكريمِ فريضـةٌ
واللُّؤمُ مقرونٌ بذي الإخـلافِ
وترى الكريمَ لمَن يُعاشِرُ مُنصِفًا
وترى اللَّئيمَ مُجانِبَ الإنصافِ 
 [3758] ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 255).  7- مُجاهَدةُ النَّفسِ على اكتِسابِ صفةِ الحِلمِ؛ عن أبي الدَّرداءِ قال: (العِلمُ بالتَّعلُّمِ، والحِلمُ بالتَّحلُّمِ) 
 [3759] ((العلم)) لأبي خيثمة (114)، قال الألباني في تخريجه: إسنادُه صحيحٌ، موقوفٌ وله شاهِدٌ.  . 
8- زيادةُ الإيمانِ؛ فكُلَّما ازداد الإيمانُ في القلبِ ازدادَت معَه السَّماحةُ، وازداد الحِلمُ.
9- أن يعلَمَ أنَّ الحِلمَ نجاةٌ مِن المُهاتَراتِ والمُنازَعاتِ وتَبادُلِ السِّبابِ والشَّتائِمِ والتَّعدي على 
الأعراضِ.10- مُلاحَظةُ العواقِبِ تمنَعُ مِن أن تستخِفَّه دواعي الغضبِ والشَّهوةِ  [3760] ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) (6/107).  .