ثامنًا: الوسائِلُ المُعينةُ على اكتِسابِ الحِلمِ
ويُمكِنُ اكتِسابُ هذه الصِّفةِ مِن خِلالِ ما يلي:
1- تذكُّرُ كثرةِ حِلمِ اللهِ على العبدِ؛ فاللهُ سبحانَه وتعالى حليمٌ يرى معصيةَ العاصي ومُخالَفتَه لأمرِه فيُمهِلُه؛ قال تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 235] .
قال
ابنُ حبَّانَ: (الواجِبُ على العاقِلِ إذا غضِب واحتَدَّ أن يذكُرَ كثرةَ حِلمِ اللهِ عنه، معَ تواتُرِ انتِهاكِه محارِمَه، وتعدِّيه حُرُماتِه، ثُمَّ يحلُمُ، ولا يُخرِجُه غيظُه إلى الدُّخولِ في أسبابِ المعاصي)
.
وقال مُحمَّدُ بنُ السَّعديِّ لابنِه عُروةَ لمَّا ولِي اليمنَ: (إذا غضبْتَ فانظُرْ إلى السَّماءِ فَوقَك، وإلى الأرضِ تَحتَك، ثُمَّ عظِّمْ خالِقَهما)
.
2- تذكُّرُ ما أعدَّه اللهُ تعالى للمُتخلِّقينَ بالأخلاقِ الفاضِلةِ، كالحِلمِ وكَظمِ الغيظِ والعَفوِ والإحسانِ؛ قال تعالى:
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133- 134] .
عن أبي جَعفَرٍ الخَطْميِّ أنَّ جدَّه عُمَيرَ بنَ حَبيبٍ -وكان قد بايَع النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أوصى بَنيه، فقال لهم: (أي بَنيَّ، إيَّاكم ومُخالَطةَ السُّفَهاءِ؛ فإنَّ مُجالَستَهم داءٌ، وإنَّه مَن يحلُمْ عن السَّفيهِ يُسَرَّ بحِلمِه، ومَن يُجِبْه يندَمْ، ومَن لا يُقِرَّ بقليلِ ما يأتي به السَّفيهُ يُقِرَّ بالكثيرِ)
.
3- التَّرفُّعُ عن المُعامَلةِ السَّيِّئةِ بالمِثلِ، وهذا يدُلُّ على شَرفِ النَّفسِ، وعُلوِّ الهِمَّةِ؛ يقولُ
جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رضِي اللهُ عنهما:
((غزَونا معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غزوةَ نَجدٍ، فلمَّا أدركَته القائِلةُ وهو في وادٍ كثيرِ العِضاهِ
، فنزَل تَحتَ شجرةٍ، واستظلَّ بها، وعلَّق سيفَه، فتفرَّق النَّاسُ في الشَّجرِ يستظِلُّونَ، وبَينا نحن كذلك إذ دعانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجِئْنا، فإذا أعرابيٌّ قاعِدٌ بَينَ يدَيه، فقال: إنَّ هذا أتاني وأنا نائِمٌ، فاخترَط سيفي
، فاستيقَظْتُ وهو قائِمٌ على رأسي مُخترِطٌ صَلتًا
، قال: مَن يمنَعُك منِّي؟ قلْتُ: اللهُ، فشامَه
، ثُمَّ قعَد، فهو هذا، قال: ولم يُعاقِبْه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم))
.
4- التَّفضُّلُ على المُسيءِ، ومِن ذلك ما رواه
أنسُ بنُ مالِكٍ رضِي اللهُ عنه؛ حيثُ قال: (كنْتُ أمشي معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعليه بُردٌ نَجرانيٌّ
غليظُ الحاشِيةِ، فأدرَكه أعرابيٌّ، فجبَذه
برِدائِه جَبذةً شديدةً، حتَّى نظرْتُ إلى صَفْحةِ عاتِقِ
رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قد أثَّرَت بها حاشِيةُ البُردِ مِن شِدَّةِ جَبذتِه! ثُمَّ قال: يا مُحمَّدُ، مُرْ لي مِن مالِ اللهِ الذي عندَك، فالتفَت إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ ضحِك، ثُمَّ أمَر له بعَطاءٍ)
.
5- الاستِحياءُ مِن جزاءِ الجَوابِ، وكان الأحنَفُ بنُ قَيسٍ يقولُ: (مَن لم يصبِرْ على كلمةٍ سمِع كلماتٍ، ورُبَّ غيظٍ قد تجرَّعْتُه مخافةَ ما هو أشَدُّ منهـ)
.
6- الرِّعايةُ ليدٍ سالِفةٍ وحُرمةٍ لازِمةٍ، وهذا مِن الوَفاءِ، وحُسنِ العَهدِ، وكمالِ المُروءةِ؛ عن حَفصِ بنِ غِياثٍ قال: (كنْتُ جالِسًا عندَ جَعفَرِ بنِ مُحمَّدٍ، ورجُلٌ يشكو رجُلًا عندَه، قال لي كذا، وفعَل لي كذا، فقال له جَعفَرٌ: مَن أكرَمك فأكرِمْه، ومَن استخفَّ بك فأكرِمْ نَفسَك عنهـ)
.
قال الشَّاعِرُ:
إنَّ الوفاءَ على الكريمِ فريضـةٌ
واللُّؤمُ مقرونٌ بذي الإخـلافِ
وترى الكريمَ لمَن يُعاشِرُ مُنصِفًا
وترى اللَّئيمَ مُجانِبَ الإنصافِ
7- مُجاهَدةُ النَّفسِ على اكتِسابِ صفةِ الحِلمِ؛ عن أبي الدَّرداءِ قال: (العِلمُ بالتَّعلُّمِ، والحِلمُ بالتَّحلُّمِ)
.
8- زيادةُ الإيمانِ؛ فكُلَّما ازداد الإيمانُ في القلبِ ازدادَت معَه السَّماحةُ، وازداد الحِلمُ.
9- أن يعلَمَ أنَّ الحِلمَ نجاةٌ مِن المُهاتَراتِ والمُنازَعاتِ وتَبادُلِ السِّبابِ والشَّتائِمِ والتَّعدي على
الأعراضِ.10- مُلاحَظةُ العواقِبِ تمنَعُ مِن أن تستخِفَّه دواعي الغضبِ والشَّهوةِ
.