موسوعة الآداب الشرعية

سادسَ عشرَ: القُدوةُ الحَسَنةُ


يَنبَغي أن يَكونَ الرَّئيسُ قُدوةً حَسَنةً لمرؤوسيه، فإذا أمَرَ بخَيرٍ كان أوَّلَ فاعِليه، وإذا نَهى عن شَرٍّ كان أبعَدَ النَّاسِ عنه.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44] .
قال السَّعديُّ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ أي: بالإيمانِ والخَيرِ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أي: تَترُكونَها عن أمرِها بذلك، والحالُ: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وسُمِّي العَقلُ عَقلًا؛ لأنَّه يَعقِلُ به ما يَنفعُه مِنَ الخَيرِ، وينعَقِلُ به عَمَّا يَضُرُّه؛ وذلك أنَّ العَقلَ يَحُثُّ صاحِبَه أن يَكونَ أوَّلَ فاعِلٍ لِما يَأمُرُ به، وأوَّلَ تارِكٍ لِما يَنهى عنه، فمَن أمرَ غَيرَه بالخَيرِ ولم يَفعَلْه، أو نَهاه عنِ الشَّرِّ فلم يَترُكْه، دَلَّ على عَدَمِ عَقلِه وجَهلِه، خُصوصًا إذا كان عالِمًا بذلك، قد قامَت عليه الحُجَّةُ.
وهذه الآيةُ وإن كانت نَزَلت في سَبَبِ بَني إسرائيلَ فهيَ عامَّةٌ لكُلِّ أحَدٍ...
وأيضًا فإنَّ النُّفوسَ مَجبولةٌ على عَدَمِ الانقيادِ لمَن يُخالِفُ قَولُه فِعلَه، فاقتِداؤُهم بالأفعالِ أبلغُ مِنِ اقتِدائِهم بالأقوالِ المُجَرَّدةِ) [145] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 51). .
2- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2-3] .
3- وقال شُعَيبٌ عليه السَّلامُ لقَومِه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((يُؤتى بالرَّجُلِ يَومَ القيامةِ فيُلقى في النَّارِ فتَندَلِقُ أقتابُ [146] الأقتابُ: الأمعاءُ، والاندِلاقُ: خُروجُ الشَّيءِ مِن مَكانِه سَلِسًا سَهلًا. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (3/ 388، 389). بَطنِه، فيَدورُ بها كما يَدورُ الحِمارُ بالرَّحى! فيَجتَمِعُ إليه أهلُ النَّارِ فيَقولونَ: يا فُلانُ ما لَك؟! ألَم تَكُنْ تَأمُرُ بالمَعروفِ وتَنهى عَنِ المُنكَرِ؟! فيَقولُ: بَلى، قد كُنتُ آمُرُ بالمَعروفِ ولا آتيه، وأنهى عَنِ المُنكَرِ وآتيهـ)) [147] أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989) واللَّفظُ له. .
ج-من الآثار
 عن سالِمِ بنِ عَبدِ اللَّهِ، أنَّ عَبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما قال: (كان عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه إذا نَهى النَّاسَ عن أمرٍ دَعا أهلَه فقال لَهم: قد نَهَيتُ النَّاسَ عن كَذا وكَذا، وإنَّما يَنظُرُ النَّاسُ إليكُم نَظَرَ الطَّيرِ إلى اللَّحمِ، فإن هِبتُم هابَ النَّاسُ، وإن وقَعتُم وقَعَ النَّاسُ، وإنَّه واللهِ لا يَقَعُ أحَدٌ مِنكُم في أمرٍ قد نَهَيتُ النَّاسَ عنه إلَّا ضاعَفتُ لَه العَذابَ؛ لمَكانِكُم مِنِّي) [148] أخرجه ابن شبة في ((تاريخ المدينة)) (2/751) واللَّفظُ له. .
وفي لَفظٍ: (وإنِّي واللَّهِ لا أوُتى برَجُلٍ مِنكُم وقَعَ في شَيءٍ مِمَّا نَهَيتُ عنه النَّاسَ، إلَّا أضعَفتُ لَه العُقوبةَ؛ لمَكانِه مِنِّي، فمَن شاءَ فليَتَقدَّمْ، ومَن شاءَ فليَتَأخَّرْ) [149] أخرجه عبد الرزاق (20713) واللَّفظُ له، وابن أبي شيبة (31285)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (4/218). .
فائِدةٌ:
قال عَليُّ بنُ عُبَيدةَ الرَّيحانيُّ: (حافِظْ على أحسَنِ ما عُرِفتَ به، ورَضيتَه مِن نَفسِك، وزِدْ فيه كُلَّ يَومٍ، وإيَّاكَ والتَّعَرُّضَ لمَذمومٍ تَفعَلُه بدالَّةِ ما سَمِعتَ فيكَ مِمَّا تُحِبُّ، أو لقَولٍ يَستَغرِقُ مُتَقدِّمَ الحَسَناتِ؛ فإنَّ قَليلَ الإساءةِ يَمحَقُ كَثيرَ الإحسانِ، مَعَ الحَسَدِ الموكَّلِ بأهلِ النِّعَمِ، فقد يَذكُرُكَ بالجَميلِ مَن عَرَفكَ به، فيَعتَرِضُ في قَولِه حاسِدٌ بقَبيحٍ مِنكَ عَثَرَ عليه، فيَهدِمُ به ما شَيَّدَ المُثْني عليك، مَعَ أنَّه لا يَسلَمُ أحَدٌ مِن تُهمةٍ تَوجَّهَت نَحوَه، وقَبيحٍ قيلَ فيه، ولَيسَ هذا أخافُ عليك، ولا هو الذي يَبلُغُ ما كَرِهت مِنَ الفسادِ لجَميلِ فِعلِك، ولَكِن ما صَحَّ عِندَكَ مِن مُنكَرٍ أتَيتَه فمِنه فأشفِقْ على صالِحِ أمرِك) [150] ((المصون والزمام)) (ص: 28). .

انظر أيضا: