موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: اختيارُ الأكْفاءِ مِن غَيرِ مُحاباةٍ وتَعاهُدُهم بالمُتابَعةِ


يَجِبُ على الرَّئيسِ أن يَختارَ الأكْفاءَ الأقوياءَ الأُمَناءَ المُناسِبينَ للأعمالِ، فيَضَعَ كُلًّا في مَوضِعِه اللَّائِقِ به، دونَ مُحاباةٍ أو ظُلمٍ [7] قال ابنُ تَيميَّةَ: (يَجِبُ على وَليِّ الأمرِ أن يولِّيَ على كُلِّ عَمَلٍ مِن أعمالِ المُسلِمينَ أصلَح مَن يَجِدُه لذلك العَمَلِ... وقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: "مَن وليَ مِن أمرِ المُسلِمينَ شَيئًا فولَّى رَجُلًا لمَودَّةٍ أو قَرابةٍ بَينَهما، فقد خانَ اللَّهَ ورَسولَه والمُسلِمينَ". وهذا واجِبٌ عليه، فيَجِبُ عليه البَحثُ عنِ المُستَحِقِّينَ للوِلاياتِ مِن نوَّابِه على الأمصارِ؛ مِنَ الأُمَراءِ الذينَ هم نوَّابُ ذي السُّلطانِ، والقُضاةِ ونَحوِهم، ومِن أُمَراءِ الأجنادِ ومُقدَّمي العَساكِرِ الصِّغارِ والكِبارِ، ووُلاةِ الأموالِ مِنَ الوُزَراءِ والكُتَّابِ والشَّادينَ والسُّعاةِ على الخَراجِ والصَّدَقاتِ، وغَيرِ ذلك مِنَ الأموالِ التي للمُسلِمينَ. وعلى كُلِّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ أن يَستَنيبَ ويَستَعمِلَ أصلَحَ مَن يَجِدُه، ويَنتَهي ذلك إلى أئِمَّةِ الصَّلاةِ والمُؤَذِّنينَ والمُقرِئينَ والمُعَلِّمينَ وأُمَراءِ الحاجِّ والبُرُدِ، والعُيونِ الذينَ همُ القُصَّادُ، وخُزَّانِ الأموالِ وحُرَّاسِ الحُصونِ والحَدَّادينَ الذينَ همُ البَوَّابونَ على الحُصونِ والمَدائِنِ، ونُقَباءِ العَساكِرِ الكِبارِ والصِّغارِ وعُرَفاءِ القَبائِلِ والأسواقِ، ورُؤَساءِ القُرى الذينَ هم "الدَّهاقين". فيَجِبُ على كُلِّ مَن وَليَ شَيئًا مِن أمرِ المُسلِمينَ مِن هَؤُلاءِ وغَيرِهم أن يَستَعمِلَ فيما تَحتَ يَدِه في كُلِّ مَوضِعٍ أصلَحَ مَن يَقدِرُ عليه، ولا يُقدِّمَ الرَّجُلَ لكَونِه طَلَبَ الوِلايةَ أو سَبَقَ في الطَّلَبِ، بَل يَكونُ ذلك سَبَبًا للمَنعِ... فإنْ عَدَل عنِ الأحَقِّ الأصلَحِ إلى غَيرِه لأجلِ قَرابةٍ بَينَهما أو ولاءِ عَتاقةٍ أو صَداقةٍ أو مُرافَقةٍ في بَلَدٍ أو مَذهَبٍ أو طَريقةٍ، أو جِنسٍ: كالعَرَبيَّةِ والفارِسيَّةِ والتُّركيَّةِ والرُّوميَّةِ، أو لرِشوةٍ يَأخُذُها مِنه مِن مالٍ أو مَنفعةٍ، أو غَيرِ ذلك مِنَ الأسبابِ، أو لضغنٍ في قَلبِه على الأحَقِّ، أو عَداوةٍ بَينِهما؛ فقد خانَ اللَّهَ ورَسولَه والمُؤمِنينَ، ودَخل فيما نُهيَ عنه في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] ، ثمَّ قال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28] ، فإنَّ الرَّجُلَ لحُبِّه لولَدِه أو لعتيقِه قد يُؤثِرُه في بَعضِ الوِلاياتِ أو يُعطيه ما لا يَستَحِقُّه؛ فيَكونُ قد خانَ أمانَتَه، وكذلك قد يُؤثِرُه زيادةً في مالِه أو حِفظِه؛ بأخذِ ما لا يَستَحِقُّه أو مُحاباةِ مَن يُداهنُه في بَعضِ الوِلاياتِ، فيَكونُ قد خانَ اللَّهَ ورَسولَه وخان أمانَتَه. ثُمَّ إنَّ المُؤَدِّيَ للأمانةِ مَعَ مُخالَفةِ هَواه يُثَبِّتُه اللهُ فيَحفظُه في أهلِه ومالِه بَعدَه، والمُطيعُ لهَواه يُعاقِبُه اللهُ بنَقيضِ قَصدِه، فيُذِلُّ أهلَه ويُذهِبُ مالَهـ). ((مجموع الفتاوى)) (28/ 246-249). ، ويتعاهَدَهم ويَتَفقَّدَهم بالسُّؤالِ والمُتابَعةِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1-عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((دَخَلتُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنا ورَجُلانِ مِن بَني عَمِّي، فقال أحَدُ الرَّجُلَينِ: يا رَسولَ اللهِ، أمِّرْنا على بَعضِ ما ولَّاكَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وقال الآخَرُ مِثلَ ذلك، فقال: إنَّا واللَّهِ لا نُوَلِّي على هذا العَمَلِ أحَدًا سَألَه، ولا أحَدًا حَرَص عليهـ)) [8] أخرجه مسلم (1733). .
وفي رِوايةٍ، قال أبو موسى رَضِيَ اللَّهُ عنه: ((أقبَلتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَعي رَجُلانِ مِنَ الأشعَريِّينَ، أحَدُهما عن يَميني، والآخَرُ عن يَساري، فكِلاهما سَألَ العَمَلَ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستاكُ، فقال: ما تَقولُ يا أبا موسى -أو: يا عَبدَ اللهِ بنَ قَيسٍ-؟ قال: فقُلتُ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ ما أطلَعاني على ما في أنفُسِهما، وما شَعَرتُ أنَّهما يَطلُبانِ العَمَلَ! قال: وكَأنِّي أنظُرُ إلى سِواكِه تَحتَ شَفَتِه وقد قَلَصَت، فقال: لَن، أو لا نَستَعمِلُ على عَمَلِنا مَن أرادَه، ولَكِنِ اذهَبْ أنتَ يا أبا موسى -أو: يا عَبدَ اللهِ بنَ قَيسٍ-، فبَعَثَه على اليَمَنِ، ثُمَّ أتبَعَه مُعاذَ بنَ جَبَلٍ)) [9] أخرجه مسلم (1733). .
2-عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَينَما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَجلِسٍ يُحدِّثُ القَومُ، جاءَه أعرابيٌّ، فقال: مَتى السَّاعةُ؟ فمَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحَدِّثُ، فقال بَعضُ القَومِ: سَمِعَ ما قال فكَرِه ما قال. وقال بَعضُهم: بَل لَم يَسمَعْ، حتَّى إذا قَضى حَديثَه، قال: أينَ -أُراه- السَّائِلُ عنِ السَّاعةِ؟ قال: ها أنا يا رَسولَ اللهِ، قال: فإذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتَظِرِ السَّاعةَ، قال: كَيف إضاعَتُها؟ قال: إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غَيرِ أهلِه فانتَظِرِ السَّاعةَ)) [10] أخرجه البخاري (59). .
3-عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((سَيَأتي على النَّاسِ سَنَواتٌ خَدَّاعاتٌ، يُصَدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، ويَنطِقُ فيها الرُّويبِضةُ [11] الرُّويبِضةُ: تَصغيرُ الرَّابِضةِ، وهو العاجِزُ الذي رَبَضَ عن مَعالي الأُمورِ وقَعَدَ عن طَلَبِها، وزيادةُ التَّاءِ للمُبالَغةِ، وسُمِّي بذلك لأنَّه يَربِضُ بالأرضِ؛ لقِلَّتِه وحَقارَتِه، لا يُؤبَهُ لَه. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (12/ 22)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 478)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 185). ، قيلَ: وما الرُّويبِضةُ؟ قال: الرَّجُلُ التَّافِهُ [12] التَّافِهُ: الخَسيسُ الحَقيرُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 192) و(2/ 185). في أمرِ العامَّةِ)) [13] أخرجه ابن ماجه (4036) واللفظ له، وأحمد (7912). حَسَّنَه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7912)، وحَسَّنه لغَيرِه الوادِعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (568)، وحَسَّنه لشَواهدِه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1887)، وصَحَّحَ إسنادَه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (8660)، وجَوَّدَه ابنُ كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/214)، وحَسَّنَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (15/37) وقال: مَتنُه صَحيحٌ. .

انظر أيضا: