موسوعة الآداب الشرعية

خامسَ عشرَ: قَبولُ النَّصيحةِ ممَّن أتى بها


مِن أدَبِ الرَّئيسِ: أن يَقبَلَ النُّصحَ مِمَّن أتَى به، ولا يَغضَبَ على مَن نَصَحَ [137] عن ابنِ الأعرابيِّ، قال: (اثنانِ ظالِمانِ: رَجُلٌ أُهدِيَت له النَّصيحةُ فاتَّخَذَها ذَنبًا، ورَجُلٌ وُسِّعَ له في مَكانٍ ضَيِّقٍ فجَلسَ مُتَرَبِّعًا). رواه ابن حبان في ((روضة العقلاء)) (ص: 196)، والخطيب البغدادي في ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) (1/ 179). وقال الحارِثُ المُحاسِبيُّ: (ابذُلِ النَّصيحةَ للهِ وللمُؤمِنينَ، وشاوِرْ في أمرِك الذينَ يَخشَونَ اللَّهَ، قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الدِّينُ النَّصيحةُ». واعلَمْ أنَّ مَن نَصَحَك فقد أحَبَّك، ومَن داهَنَك فقد غَشَّك، ومَن لم يَقبَلْ نَصيحَتَك فليسَ بأخٍ لك. قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: لا خَيرَ في قَومٍ ليسوا بناصِحينَ، ولا خَيرَ في قَومٍ لا يُحِبُّونَ النَّاصِحينَ). ((رسالة المسترشدين)) (ص: 70، 71). وقال أبو طالِبٍ المَكِّيُّ: (إن كان أخوه الذي نَصَحَ له صادِقًا في حالِه أحَبَّه على نُصحِه، فإن لم يُحِبَّه وكَرِهَ ذلك مِنه دَلَّ على كَذِبِ الحالِ، قال اللهُ سُبحانَه وتعالى في وَصفِ الكاذِبينَ: وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 79] ، وقد كان بَعضُ الصَّالحينَ يَقولُ: أحَبُّ النَّاسِ إليَّ مَن أهدى عُيوبي). ((قوت القلوب)) (2/ 370). وقال الغَزاليُّ: (إنَّ مَن يُنَبِّهُك على فِعلٍ مَذمومٍ تَعاطَيتَه، أو صِفةٍ مَذمومةٍ اتَّصَفتَ بها لتُزَكِّيَ نَفسَك عنها، كان كَمَن يُنَبِّهُك على حَيَّةٍ أو عَقرَبٍ تَحتَ ذيلِك وقد هَمَّت بإهلاكِك، فإن كُنتَ تَكرَهُ ذلك فما أشَدَّ حُمقَك! والصِّفاتُ الذَّميمةُ عَقارِبُ وحَيَّاتٌ، وهيَ في الآخِرةِ مُهلِكاتٌ؛ فإنَّها تَلدَغُ القُلوبَ والأرواحَ، وألمُها أشَدُّ مِمَّا يَلدَغُ الظَّواهِرَ والأجسادَ، وهيَ مَخلوقةٌ مِن نارِ اللَّهِ الموقَدةِ؛ ولذلك كان عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه يَستَهدي ذلك مِن إخوانِه ويَقولُ: رَحِمَ اللهُ امرَأً أهدى إلى أخيه عُيوبَهـ). ((إحياء علوم الدين)) (2/ 182، 183). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: 204 - 206] .
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي: إذا أُمِر هذا المنافقُ بتقوى الله عزَّ وجلَّ؛ بامتثالِ ما أمَر به، واجتنابِ ما نهى عنه، ومِن ذلك: تَرْكُ الإفساد في الأرض بالكفر والظُّلم والمعاصي، وإهلاكِ الزُّروع والحيوانات، إذا أُمر بذلك، استكبَر، وأخذَتْه حميَّةٌ بسبب وقوعِه في الآثام، وحملَتْه هذه الأَنَفةُ على ارتكاب المزيدِ من السَّيِّئاتِ.
ففي الآيةِ التَّحذيرُ من ردِّ النَّاصِحين؛ لأنَّ اللهَ تعالى جعَل هذا مِن أوصافِ هؤلاء المنافِقين؛ فقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فمَن ردَّ آمرًا بتقوى اللهِ ففيه شَبَهٌ مِن المنافِقين، والواجِبُ على المرءِ إذا قيل له: (اتَّقِ اللهَ) أن يقولَ: (سمِعْنا وأطَعْنا) تعظيمًا لتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ [138] يُنظر: ((التفسير المحرر)) (1/ 586، 587). .
 2- قال تعالى عن نبيِّه صالحٍ عليه السَّلامُ: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 79] .
قولُه: لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ، (أي تكرَهونَ النَّاصحينَ فلا تُطيعونَهم في نُصحِهم؛ لأنَّ المحبَّ لمَن يحبُّ مطيعٌ، فأراد بذلك الكِنايةَ عن رفضِهم النَّصيحةَ) [139] ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (8-ب/ 228). .
ب- مِنَ الآثارِ
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّ مِن أكبَرِ الذَّنبِ أن يَقولَ الرَّجُلُ لأخيه: اتَّقِ اللَّهَ، فيَقولَ: عليك نَفسَك، أنتَ تَأمُرُني؟!) [140] أخرجه الطبراني (9/119) (8587)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7896). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/274): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/1056): رِجالُه ثِقاتٌ، إن كان سَعيدُ بنُ وَهبٍ هو الهَمْدانيَّ الخيوانيَّ .
فوائِدُ:
1- عنِ الأوزاعيِّ، عن بلالِ بنِ سَعدٍ، قال: (أخٌ لك كُلَّما لقيَك أخبَرَك بعَيبٍ فيك خَيرٌ لك مِن أخٍ لك كُلَّما لَقِيَك وَضعَ في كَفِّك دينارًا) [141] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 17). وفي لفظٍ: (أخٌ لك كُلَّما لقيَك ذَكَّرك بحَظِّك مِنَ اللهِ خَيرٌ لك مِن أخٍ كُلَّما لقيَك وضعَ في كَفِّك دينارًا). رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الإخوان)) (85)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 225). وينظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (10/ 487، 488). .
وعن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ يَزيدَ، قال: (قال لي بلالُ بنُ سَعدٍ: بَلغَني أنَّ المُؤمِنَ مِرآةُ أخيه، فهَل تَستَريبُ مِن أمري شَيئًا؟) [142] رواه ابنُ المبارك في ((الزهد)) (1378). .
2- قال ابنُ تَيميَّةَ: (أعظَمُ ما عُبدَ اللهُ به نَصيحةُ خَلقِه، وبذلك بَعَثَ اللهُ الأنبياءَ والمُرسَلينَ) [143] ((مجموع الفتاوى)) (28/ 615). .
وقال: (المُؤمِنُ للمُؤمِنِ كاليَدَينِ تَغسِلُ إحداهما الأُخرى. وقد لا يَنقَلعُ الوسَخُ إلَّا بنَوعٍ مِنَ الخُشونةِ، لكِنَّ ذلك يوجِبُ مِنَ النَّظافةِ والنُّعومةِ ما نَحمَدُ مَعَه ذلك التَّخشينَ) [144] ((مجموع الفتاوى)) (28/ 54،53). .

انظر أيضا: