رابعَ عشرَ: الشُّورى
يَنبَغي للرَّئيسِ أن يَحرِصَ على استِشارةِ أهلِ الرَّأيِ والفَضلِ
[127] قال ابنُ تَيميَّةَ: (ما نَدِمَ مَنِ استَخارَ الخالِقَ وشاورَ المَخلوقينَ، وتَثَبَّتَ في أمرِه؛ فقد قال اللهُ تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159] . قال قتادةُ: ما تَشاورَ قَومٌ يَبتَغونَ وجهَ اللهِ إلَّا هُدُوا لأرشَدِ أمرِهم). ((الكلم الطيب)) (ص: 56). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ:1- قال تعالى:
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] .
عنِ الضَّحَّاكِ بنِ مُزاحِمٍ، قال: (ما أمَرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمَشورةِ إلَّا لِما عَلِمَ فيها مِنَ الفَضلِ)
[128] ((جامع البيان)) للطبري (6/ 189). .
وعن قَتادةَ، قال: (أمَر اللهُ عَزَّ وجَلَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُشاوِرَ أصحابَه في الأُمورِ، وهو يَأتيه وَحيُ السَّماءِ؛ لأنَّه أطيَبُ لأنفُسِ القَومِ، وإنَّ القَومَ إذا شاورَ بَعضُهم بَعضًا، وأرادوا بذلك وجهَ اللهِ، عَزم لَهم على أرشَدِهـ)
[129] ((جامع البيان)) للطبري (6/ 188، 189). .
وقال السَّعديُّ: (
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] أي: الأُمورِ التي تَحتاجُ إلى استِشارةٍ ونَظَرٍ وفِكرٍ؛ فإنَّ في الِاستِشارةِ مِنَ الفوائِدِ والمَصالِحِ الدِّينيَّةِ والدُّنيَويَّةِ ما لا يُمكِنُ حَصرُه:
مِنها: أنَّ المُشاورةَ مِنَ العِباداتِ المُتَقَرَّبِ بها إلى اللهِ.
ومِنها: أنَّ فيها تَسميحًا لخَواطِرِهم، وإزالةً لِما يَصيرُ في القُلوبِ عِندَ الحَوادِثِ، فإنَّ مَن لَه الأمرُ على النَّاسِ إذا جَمَعَ أهلَ الرَّأيِ والفَضلِ وشاوَرَهم في حادِثةٍ مِنَ الحَوادِثِ اطمَأنَّت نُفوسُهم وأحَبُّوه، وعَلِموا أنَّه لَيسَ بمُستَبِدٍّ عليهم، وإنَّما يَنظُرُ إلى المَصلَحةِ الكُلِّيَّةِ العامَّةِ للجَميعِ، فبَذَلوا جُهدَهم ومَقدورَهم في طاعَتِه؛ لعِلمِهم بسَعيِه في مَصالِحِ العُمومِ، بخِلافِ مَن لَيسَ كذلك، فإنَّهم لا يَكادونَ يُحِبُّونَه مَحَبَّةً صادِقةً، ولا يُطيعونَه، وإن أطاعوه فطاعةٌ غَيرُ تامَّةٍ.
ومِنها: أنَّ في الِاستِشارةِ تَنُّورَ الأفكارِ، بسَبَبِ إعمالِها فيما وُضِعَت لَه، فصارَ في ذلك زيادةٌ للعُقولِ.
ومِنها: ما تُنتِجُه الِاستِشارةُ مِنَ الرَّأيِ المُصيبِ، فإنَّ المُشاوِرَ لا يَكادُ يُخطِئُ في فِعلِه، وإن أخطَأ أو لَم يَتِمَّ لَه مَطلوبٌ، فلَيسَ بمَلومٍ، فإذا كان اللهُ يَقولُ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو أكمَلُ النَّاسِ عَقلًا، وأغزَرُهم عِلمًا، وأفضَلُهم رَأيًا:
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فكَيف بغَيرِه؟!)
[130] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 154). .
وقال ابنُ الجَوزيِّ: (واختَلَف العُلَماءُ لأيِّ مَعنًى أمَر اللهُ نَبيَّه بمُشاورةِ أصحابِه مَعَ كَونِه كامِلَ الرَّأيِ، تامَّ التَّدبيرِ؛ على ثَلاثةِ أقوالٍ:
أحَدُها: ليَستَنَّ به مَن بَعدَه، وهذا قَولُ الحَسَنِ، وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ.
والثَّاني: لتَطيبَ قُلوبُهم، وهو قَولُ قتادةَ، والرَّبيعِ، وابنِ إسحاقَ، ومُقاتِلٍ.
والثَّالِثُ: للإعلامِ ببَرَكةِ المُشاوَرةِ، وهو قَولُ الضَّحَّاكِ.
ومِن فوائِدِ المُشاوَرةِ أنَّ المُشاوِرَ إذا لم يَنجَحْ أمرُه، عَلِمَ أنَّ امتِناعَ النَّجاحِ مَحضُ قَدَرٍ، فلَم يَلُمْ نَفسَه.
ومِنها: أنَّه قد يَعزِمُ على أمرٍ فيَبينُ لَه الصَّوابُ في قَولِ غَيرِه، فيَعلَمُ عَجزَ نَفسِه عنِ الإحاطةِ بفُنونِ المَصالِحِ.
قال عليٌّ عليه السَّلامُ: الِاستِشارةُ عَينُ الهدايةِ، وقد خاطَرَ مَنِ استَغنى برَأيِه، والتَّدبيرُ قَبلَ العَمَلِ يُؤَمِّنُكَ مِنَ النَّدَمِ.
وقال بَعضُ الحُكَماءِ: ما استُنبِطَ الصَّوابُ بمِثلِ المُشاوَرةِ، ولا حُصِّنَتِ النِّعَمُ بمِثلِ المواساةِ، ولا اكتُسِبَ البَغضاءُ بمِثلِ الكِبرِ)
[131] ((زاد المسير)) (1/ 340). .
2-قال تعالى في المُؤمِنينَ:
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] .
عنِ الحَسَنِ، قال: (واللَّهِ ما استَشارَ قَومٌ قَطُّ إلَّا هُدُوا لأفضَلِ ما بحَضرَتِهم، ثُمَّ تَلا:
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] )
[132] ((الأدب المفرد)) للبخاري (258). .
وفي لَفظٍ: (واللَّهِ ما تَشاورَ قَومٌ قَطُّ إلَّا عَزم اللَّهُ لَهم بالرُّشدِ والذي يَنفَعُ)
[133] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (3/ 801). .
وقال السَّعديُّ: (
وَأَمْرُهُمْ الدِّينيُّ والدُّنيَويُّ
شُورَى بَيْنَهُمْ أي: لا يَستَبِدُّ أحَدٌ مِنهم برَأيِه في أمرٍ مِنَ الأُمورِ المُشتَرَكةِ بَينَهم، وهذا لا يَكونُ إلَّا فرعًا عنِ اجتِماعِهم وتوالُفِهم وتوادُدِهم وتَحابُبِهم وكَمالِ عُقولِهم، أنَّهم إذا أرادوا أمرًا مِنَ الأُمورِ التي تَحتاجُ إلى إعمالِ الفِكرِ والرَّأيِ فيها، اجتَمَعوا لَها وتَشاوروا وبَحَثوا فيها، حتَّى إذا تَبَيَّنَت لَهمُ المَصلَحةُ انتَهَزوها وبادَروها)
[134] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 760). .
فائدةٌ:قال ابنُ المُقَفَّعِ: (المَلِكُ الحازِمُ يَزدادُ برَأيِ الوُزَراءِ الحزمةَ، كَما يَزدادُ البَحرُ بمَوادِّه مِنَ الأنهارِ.
الظَّفَرُ بالحَزمِ، والحَزمُ بإجالةِ الرَّأيِ، والرَّأيُ بتَكرارِ النَّظَرِ وتَحصينِ الأسرارِ.
إنَّ المُستَشيرَ وإن كان أفضَلَ مِنَ المُستَشارِ رَأيًا فهو يَزدادُ برَأيِه رَأيًا، كَما تَزدادُ النَّارُ بالوَدكِ
[135] الوَدَكُ: دَسَمُ اللَّحمِ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1613). ضَوءًا.
على المُستَشارِ موافَقةُ المُستَشيرِ على صَوابِ ما يَرى، والرِّفقُ به في تَبصيرِ خَطَأٍ إن أتى به، وتَقليبُ الرَّأيِ فيما شَكَّا فيه؛ حتَّى تَستَقيمَ لَهما مُشاورَتُهما)
[136] ((الأدب الصغير)) (ص: 66، 67). .