تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
لا تحِلُّ هدايا العمَّالِ، وكلُّ ما أُهدِيَ بسَبَبِ الوِلايةِ. الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والإجماعِ: أ- مِنَ السُّنَّةِ 1- عن أبي حُمَيدٍ السَّاعِديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((استَعملَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَجُلًا على صَدَقاتِ بَني سُلَيمٍ يُدعى ابنَ اللُّتْبيَّةِ، فلمَّا جاءَ حاسَبَه، قال: هذا مالُكم وهذا هَدِيَّةٌ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فهَلَّا جَلَستَ في بَيتِ أبيك وأُمِّك حتَّى تأتيَك هَدِيَّتُك إن كُنتَ صادِقًا! ثُمَّ خَطَبَنا فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ؛ فإنِّي أستَعمِلُ الرَّجُلَ منكم على العَمَلِ ممَّا ولَّاني اللهُ، فيَأتي فيَقولُ: هذا مالُكم وهذا هَديَّةٌ أُهدِيَت لي، أفلا جَلَسَ في بَيتِ أبيه وأُمِّه حتَّى تَأتيَه هَدِيَّتُه؟! واللهِ لا يَأخُذُ أحَدٌ منكم شَيئًا بغيرِ حَقِّه إلَّا لَقِيَ اللهَ يَحمِلُه يَومَ القِيامةِ، فلَأَعرِفَنَّ أحَدًا منكم لَقِيَ اللهَ يَحمِلُ بَعيرًا له رُغاءٌ [96] الرُّغاءُ: صوتُ الإبلِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 240). ، أو بقَرةً لها خُوارٌ [97] الخُوارُ: صوتُ البَقَرةِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 563، 647). ، أو شاةً تَيعَرُ [98] اليَعارُ: صَوتُ الشَّاةِ، وقد يَعَرت الشَّاةُ تَيعَرُ يُعارًا بالضَّمِّ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 563، 647). ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيه حتَّى رُئِيَ بَياضُ إبْطَيه، يقولُ: اللَّهُمَّ هل بَلَّغتُ، بَصْرَ عَيْني وسَمْعَ [99] سمعَ وبصرَ بسكونِ الصَّادِ والميمِ وفتحِ الراءِ والعينِ، كذا ضبطه أكثرُهم، وضُبِطا أيضًا بصُر وسَمِع. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/ 131)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (1/ 523). أذُني)) [100] أخرجه البخاري (6979) واللفظ له، ومسلم (1832). . قال الخَطَّابيُّ: (في هذا بَيانُ أنَّ هَدايا العُمَّالِ سُحتٌ، وأنَّه ليسَ سَبيلُها سَبيلَ سائِرِ الهَدايا المُباحةِ، وإنَّما يُهدى إليه للمُحاباةِ، وليُخَفِّفَ عنِ المُهدي، ويسوغَ له بعض الواجبِ عليه، وهو خيانةٌ مِنه، وبَخسٌ للحَقِّ الواجِبِ عليه استيفاؤُه لأهلِه. وفي قَولِه: «ألَا جَلسَ في بَيتِ أُمِّه أو أبيه فيَنظُرَ أيُهدى إليه أم لا» دَليلٌ على أنَّ كُلَّ أمرٍ يُتَذَرَّعُ به إلى مَحظورٍ فهو مَحظورٌ، ويَدخُلُ في ذلك القَرضُ يَجُرُّ المَنفعةَ، والدَّارُ المرهونةُ يَسكُنُها المُرتَهِنُ بلا كِراءٍ، والدَّابَّةُ المرهونةُ يَركَبُها ويَرتَفِقُ بها مِن غَيرِ عِوَضٍ. وفي مَعناه مَن باعَ دِرهَمًا ورَغيفًا بدِرهَمَينِ؛ لأنَّ مَعلومًا أنَّه إنَّما جَعَل الرَّغيفَ ذَريعةً إلى أن يَربَحَ فَضلَ الدِّرهَمِ الزَّائِدِ، وكذلك كُلُّ تَلجِئةٍ وكُلُّ دَخيلٍ في العُقودِ يجري مَجرى ما ذَكَرناه على مَعنى قَولِ: «هَلَّا قَعَدَ في بَيتِ أُمِّه حتَّى يَنظُرَ أيُهدى إليه أم لا»، فيُنظَرُ في الشَّيءِ وقَرينِه إذا أُفرِدَ أحَدُهما عنِ الآخَرِ، وفُرِّق بَينَ قِرانِهما: هَل يَكونُ حُكمُه عِندَ الانفِرادِ كحُكمِه عِندَ الاقتِرانِ أم لا؟) [101] ((معالم السنن)) (3/ 8). وقال النَّوويُّ: (في هذا الحَديثِ بَيانُ أنَّ هَدايا العُمَّالِ حَرامٌ وغُلولٌ؛ لأنَّه خانَ في وِلايَتِه وأمانَتِه؛ ولهذا ذُكِرَ في الحَديثِ في عُقوبَتِه وحَملِه ما أُهديَ إليه يَومَ القيامةِ، كَما ذُكِرَ مِثلُه في الغالِّ، وقد بَيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نَفسِ الحَديثِ السَّبَبَ في تَحريمِ الهَديَّةِ عليه، وأنَّها بسَبَبِ الوِلايةِ بخِلافِ الهَديَّةِ لغَيرِ العامِلِ؛ فإنَّها مُستَحَبَّةٌ). ((شرح مسلم)) (12/ 219). ويُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (6/ 236، 237). . (وفيه كَراهيةُ قَبولِ هَديَّةِ طالِبِ العِنايةِ، ويَدخُلُ في مَعنى ذلك كَراهيةُ هَديَّةِ المِديانِ والمُقارِضِ، وكُلِّ مَن لهَديَّتِه سَبَبٌ غَيرُ سَبَبِ الجيرةِ أوِ الصَّداقةِ أو صِلةِ الرَّحِمِ) [102] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 112). وقال ابن حجر: (قال ابن بطال: يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ). ((فتح الباري)) (13/ 167). . 2- عن عَديِّ بنِ عَمِيرةَ الكِنديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((مَنِ استَعْمَلناه منكم على عَمَلٍ، فكتَمَنا مِخْيَطًا [103] قال ابنُ الجوزيِّ: (المِخْيَطُ: الإبرةُ. فأمَّا الخِياطُ فيكونُ الإبِرةَ، كقَولِه تعالى: فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40] ، ويكونُ بمعنى الخَيطِ، كقَولِه عليه السَّلامُ: «أدُّوا الِخياطَ والمِخْيَطَ»). ((كشف المشكل)) (4/ 225). فما فوقَه، كان غُلولًا [104] غلولا أي: خيانة، ويكون ذلك على رقبته إذا جاء يوم القيامة. والغلول: السرقة من الغنيمة والفيء. ينظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 55)، ((المفاتيح)) للمظهري (2/ 485). يأتي به يومَ القِيامَةِ. قال: فقام إليه رجلٌ أسودُ من الأنصارِ، كأنِّي أنظُرُ إليه، فقال: يا رسولَ اللهِ، اقْبَلْ عنِّي عَمَلَك. قال: وما لكَ؟ قال: سمعتُك تقولُ كذا وكذا. قال: وأنا أقولُه الآنَ، مَن استَعْمَلْناه منكُم على عمَلٍ فلْيَجِئْ بقليلِه وكثيرِه، فما أُوتيَ منه أخَذ، وما نُهِيَ عنه انتهى)) [105] أخرجه مسلم (1833). . 3- عن بُرَيدةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مَنِ استعمَلْناه على عمَلٍ فرَزقْناهُ رِزقًا؛ فما أخذَ بعدَ ذلك فهو غُلولٌ)) [106] أخرجه أبو داود (2943)، وابن خزيمة (2369)، والحاكم (1491) صحَّحه ابنُ خزيمة، والحاكم على شرط الشيخين، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (94)، وابن الملقن على شرط الشيخين في ((البدر المنير)) (9/564) . ب- مِنَ الإجماعِ نُقِلَ الإجماعُ على ذلك [107] ممن نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبدِ البَرِّ، وابنُ رَسلانَ. قال ابنُ عبد البَرِّ: (فإنَّ قَبولَ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم الهدايا أشهَرُ وأعرَفُ وأكثَرُ مِن أن تُحصى الآثارُ في ذلك، لكنَّه كان صلَّى الله عليه وسلَّم مخصوصًا بما أفاءَ اللهُ عليه مِن غَيرِ قِتالٍ مِن أموالِ الكفَّارِ أنْ يكون له خاصَّةً دونَ سائِرِ النَّاسِ، ومَن بَعدَه مِنَ الأئمَّةِ حُكمُه في ذلك خلافُ حُكمِه؛ لأنَّ ذلك لا يكونُ له خاصَّةً دونَ المُسلِمينَ بإجماعٍ؛ لأنَّه فيءٌ، وفي حديثِ أبي حُمَيدٍ السَّاعديِّ في قِصَّةِ ابنِ اللُّتْبيَّةِ ما يدلُّ على أنَّ العامِلَ لا يجوزُ له أن يَستأثرَ بهديَّةٍ أُهدِيَتْ إليه بسَبَبِ ولايَتِه؛ لأنَّها للمُسلِمين). ((التمهيد)) (2/6، 7)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/88). ويُنظر: ((فتاوى السبكي)) (1/204). وقال ابنُ رسلانَ: (ويدخُلُ في إطلاقِ الرِّشوةِ: الرِّشوةُ للحاكِمِ والعامِلِ على أخْذِ الصَّدَقاتِ، وهي حرامٌ بالإجماعِ). ((شرح سنن أبي داود)) (14/ 616). . وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّ هدايا العمَّالِ سُحتٌ؛ لأنَّه إنَّما يُهدَى إلى العامِلِ؛ ليُغمِضَ له في بعضِ ما يجِبُ عليه أداؤُه، ويَبخَسَ بحقِّ المساكينِ، ويُهدَى إلى القاضي ليَميلَ إليه في الحُكمِ، أو لا يُؤمَنُ من أن تحمِلَه الهدِيَّةُ عليه [108] ((شرح السنة)) للبغوي (5/498)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/168). . فائدةٌ: في سببِ كَراهيَّةِ الهَديَّةِ لأربابِ القَضاءِ والوِلاياتِ قال ابنُ حَمدونَ: (أمَّا كَراهيَّةُ الهَديَّةِ فإنَّما تَكونُ لأربابِ القَضاءِ والوِلاياتِ؛ تَحَوُّبًا مِنَ الظِّنَّةِ والشُّبُهاتِ، وتَحَرُّجًا أن تَقَعَ بمَعنى الرِّشوةِ [109] قال البخاريُّ في "صحيحه": (بابُ مَن لم يَقبَلِ الهَديَّةَ لعِلَّةٍ. وقال عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ: «كانتِ الهَديَّةُ في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هَديَّةً، واليَومَ رِشوةٌ»). ((صحيح البخاري)) (3/ 159). ... وقد يُمنَعُ مِنها هؤلاء أيضًا احتياطًا للمُروءةِ والأمانةِ. بَلغَ عَبدَ المَلِكِ بنَ مَروانَ أنَّ عامِلًا له قَبِل هَديَّةً، فسَأله عن ذلك، فقال: بلادُك عامِرةٌ، وخَراجُك وافِرٌ، ورَعيَّتُك راضيةٌ، قال: أخبِرْني عَمَّا سَألتُك! قال: قد قَبِلتُ، قال: لئِن كُنتَ قَبِلتَها ولا تَرى لصاحِبِها مُكافأةً إنَّك للَئيمٌ، وإن كُنتَ قَبِلتَها لتَستَكفيَ رَجُلًا عاجِزًا إنَّك لخائِنٌ، ولئِن كُنتَ قَبِلتَها وأنتَ مُضمِرٌ تَعويضَ صاحِبِها لقد بَسَطتَ ألسُنَ أهلِ عَمَلِك بالقَدحِ فيك، وذلك جَهلٌ، وما في مَن أتى أمرًا لم يَخْلُ فيه مِن لُؤمٍ وخيانةٍ وجَهلٍ مُصطَنَعٌ! وعَزَلهـ) [110] ((التذكرة الحمدونية)) (5/ 9، 10). .