أولًا: اجتِنابُ أسبابِ الغَضَبِ وتَركُ العَمَلِ بمُقتَضاه
يَنبَغي اجتِنابُ أسبابِ الغَضَبِ وما يَجلِبُه، وكذا يَنبَغي مَلْكُ النَّفسِ وتَركُ العَمَلِ بمُقتَضاه، والحَذَرُ مِنَ الخُروجِ به إلى ما لا يُرضي اللَّهَ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1-عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه
((أنَّ رَجُلًا قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوصِني، قال: لا تَغضَبْ، فرَدَّدَ مِرارًا، قال: لا تَغضَبْ)) [371] رواه البخاري (6116). .
قال الخَطَّابيُّ: (مَعنى قَولِه: «لا تَغضَبْ» هو أن يَحذَرَ أسبابَ الغَضَبِ، وأن لا يَتَعَرَّضَ للأُمورِ التي تَجلِبُ عليه الضَّجَرَ فتُغضِبُه، فأمَّا نَفسُ الغَضَبِ فطَبعٌ في الإنسانِ لا يُمكِنُه نَزعُه وإخراجُه مِن جِبلَّتِه.
وقد يَكونُ مَعنى قَولِه: «لا تَغضَبْ» أي: لا تَفعَلْ ما يَأمُرُك به الغَضَبُ ويَحمِلُك عليه مِنَ القَولِ والفِعلِ)
[372] ((أعلام الحديث)) (3/ 2197). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/520). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: ("لا تَغضَبْ" يحتَمِلُ أمرَينِ:
أحَدُهما: أن يكونَ مُرادُه الأمرَ بالأسبابِ التي توجِبُ حُسنَ الخُلُقِ؛ مِن الكرمِ والسَّخاءِ، والحِلمِ والحَياءِ، والتَّواضُعِ والاحتِمالِ وكفِّ الأذى، والصَّفحِ والعَفوِ وكظمِ الغَيظِ، والطَّلاقةِ والبِشرِ، ونَحوِ ذلك مِن الأخلاقِ الجَميلةِ؛ فإنَّ النَّفسَ إذا تَخَلَّقَت بهذه الأخلاقِ، وصارَت لها عادةً، أوجَبَ لها ذلك دَفعَ الغَضَبِ عِندَ حُصولِ أسبابِه.
والثَّاني: أن يكونَ المُرادُ: لا تَعمَلْ بمُقتَضى الغَضَبِ إذا حَصَل لك، بَل جاهِدْ نَفسَك على تَركِ تَنفيذِه والعَمَلِ بما يأمُرُ به؛ فإنَّ الغَضَبَ إذا مَلَكَ ابنَ آدَمَ كان الآمِرَ والنَّاهيَ له...
فإذا لم يَمتَثِلِ الإنسانُ ما يَأمُرُه به غَضَبُه، وجاهَدَ نَفسَه على ذلك، اندَفعَ عنه شَرُّ الغَضَبِ، ورُبَّما سَكَنَ غَضَبُه، وذَهَبَ عاجِلًا، فكَأنَّه حينَئِذٍ لم يَغضَبْ، وإلى هذا المَعنى وقَعَتِ الإشارةُ في القُرآنِ بقَولِه عَزَّ وجَلَّ:
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] ، وبقوله عز وجل:
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] )
[373] ((جامع العلوم والحكم)) (1/364). .
2- عن جاريةَ بنِ قُدامةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال:
((يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي قَولًا يَنفعُني اللَّهُ به، وأقلِلْ لعَلِّي لا أُغفِلُه، قال: لا تَغضَبْ، فعادَ له مِرارًا، كُلَّ ذلك يَرجِعُ إليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَغضَبْ)) [374] أخرجه أحمد (5689)، وابن حبان (5689) واللفظ له، والطبراني (2/262) (2096). صَحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2748)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1513)، وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (5689): (إسنادُه صحيحٌ على شَرطِ مُسلمٍ غَيرَ صَحابيِّهـ)، وقال البيهقي ((شعب الإيمان)) (6/2805): (مَحفوظٌ). .
قال ابنُ حِبَّانَ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا تَغضَبْ» أرادَ به أن لا تَعمَلَ عَمَلًا بَعدَ الغَضَبِ مِمَّا نَهَيتُك عنه، لا أنَّه نَهاه عنِ الغَضَبِ؛ إذِ الغَضَبُ شَيءٌ جِبلَّةٌ في الإنسانِ، ومُحالٌ أن يُنهى المَرءُ عن جِبلَّتِه التي خُلِقَ عليها، بَل وقَعَ النَّهيُ في هذا الخَبَرِ عَمَّا يَتَولَّدُ مِنَ الغَضَبِ مِمَّا ذَكَرناهـ)
[375] ((الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان)) لابن بلبان (12/ 504). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ليس الشَّديدُ بالصُّرَعةِ [376] الصُّرَعةُ: على وَزنِ فُعَلة -بضَمِّ الفاءِ وفَتحِ العينِ-، هو الذي يَصرَعُ الرِّجالَ، والهاءُ للمُبالغةِ في الصِّفةِ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/ 2196). ، إنَّما الشَّديدُ الذي يملِكُ نَفسَه عِندَ الغَضَبِ)) [377] رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609). .
وفي روايةٍ:
((ليس الشَّديدُ مَن غَلَبَ النَّاسَ، وإنَّما الشَّديدُ مَن غَلَب نَفسَهـ)) [378] أخرجها الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1645)، وابن حبان (717)، والديلمي في ((الفردوس)) (5223) واللفظ له صَحَّحها ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2750)، وصَحَّح إسنادَها على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (1645). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (أرادَ عليه السَّلامُ أنَّ الذي يَقوى على مَلكِ نَفسِه عِندَ الغَضَبِ ويرُدُّها عنه هو القويُّ الشَّديدُ، والنِّهايةُ في الشِّدَّةِ؛ لغَلبَتِه هَواه المُرديَ الذي زَيَّنَه له الشَّيطانُ المُغوي؛ فدَلَّ هذا أنَّ مُجاهَدةَ النَّفسِ أشَدُّ مِن مُجاهَدةِ العَدوِّ؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ جَعل للذي يملِكُ نَفسَه عِندَ الغَضَبِ مِن القوَّةِ والشِّدَّةِ ما ليس للذي يغلِبُ النَّاسَ ويَصرَعُهم)
[379] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/296). .
وقال الزُّرقانيُّ: (لمَّا كان الغَضبانُ بحالةٍ شَديدةٍ مِن الغَيظِ، وقد ثارَت عليه شِدَّةٌ مِن الغَضَبِ فقَهرَها بحِلمِه وصَرَعَها بثَباتِه وعَدَمِ عَمَلِه بمُقتَضى الغَضَبِ؛ كان كالصُّرَعةِ الذي يصرَعُ الرِّجالَ ولا يَصرَعونَهـ)
[380] ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (4/410). .
4- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ بقَومٍ يَصطَرِعونَ، فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، هذا فُلانٌ الصَّريعُ، ما يُصارِعُ أحَدًا إلَّا صَرَعه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا أدُلُّكُم على مَن هو أشَدُّ مِنه؟ رَجُلٌ ظَلَمه رَجُلٌ فكَظَمَ غَيظَه، فغَلبَه وغَلبَ شَيطانَه وغَلبَ شَيطانَ صاحِبِهـ)) [381] أخرجه البزار (7272) واللفظ له، والطبراني في ((مكارم الأخلاق)) (52). حَسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (10/535)، والقسطلاني في ((إرشاد الساري)) (9/71)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/870). .
فائِدةٌ في بَيانِ الأسبابِ المُهَيِّجةِ للغَضَبِ:قال الرَّاغِبُ: (وأسبابُ الغَضَبِ: العُجبُ والافتِخارُ والمِراءُ واللَّجاجُ والمُزاحُ والتِّيهُ والضَّيمُ والاستِهزاءُ، وطَلَبُ ما فيه التَّنافُسُ، والتَّحاسُدُ وشَهوةُ الانتِقامِ)
[382] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 244). .
وقال الغَزاليُّ: (قد عَرَفتَ أنَّ عِلاجَ كُلِّ عِلَّةٍ حَسْمُ مادَّتِها وإزالةُ أسبابِها، فلا بُدَّ مِن مَعرِفةِ أسبابِ الغَضَبِ... والأسبابُ المُهَيِّجةُ للغَضَبِ هيَ الزَّهوُ والعُجبُ والمُزاحُ والهَزلُ والهُزءُ والتَّعييرُ والمُماراةُ والمُضادَّةُ والغَدرُ، وشِدَّةُ الحِرصِ على فُضولِ المالِ والجاهِ، وهيَ بأجمَعِها أخلاقٌ رَديئةٌ مَذمومةٌ شَرعًا، ولا خَلاصَ مِنَ الغَضَبِ مَعَ بَقاءِ هذه الأسبابِ، فلا بُدَّ مِن إزالةِ هذه الأسبابِ بأضدادِها.
فيَنبَغي أن تُميتَ الزَّهوَ بالتَّواضُعِ، وتُميتَ العُجبَ بمَعرِفتِك بنَفسِك، وتُزيلَ الفَخرَ بأنَّك مِن جِنسِ عَبدِك؛ إذِ النَّاسُ يَجمَعُهم في الانتِسابِ أبٌ واحِدٌ، وإنَّما اختَلفوا في الفَضلِ أشتاتًا؛ فبَنو آدَمَ جِنسٌ واحِدٌ، وإنَّما الفخرُ بالفضائِلِ، والفخرُ والعُجبُ والكِبرُ أكبَرُ الرَّذائِلِ، وهيَ أصلُها ورَأسُها، فإذا لم تَخلُ عنها فلا فَضلَ لك على غَيرِك، فلِمَ تَفتَخِرُ وأنتَ مِن جِنسِ عَبدِك مِن حَيثُ البِنيةُ والنَّسَبُ والأعضاءُ الظَّاهرةُ والباطِنةُ؟
وأمَّا المُزاحُ فتُزيلُه بالتَّشاغُلِ بالمُهمَّاتِ الدِّينيَّةِ التي تَستَوعِبُ العُمرَ وتَفضُلُ عنه.
وأمَّا الهَزلُ فتُزيلُه بالجِدِّ في طَلَبِ الفضائِلِ والأخلاقِ الحَسَنةِ والعُلومِ الدِّينيَّةِ التي تُبَلِّغُك إلى سَعادةِ الآخِرةِ.
وأمَّا الهُزءُ فتُزيلُه بالتَّكَرُّمِ عن إيذاءِ النَّاسِ، وبصيانةِ النَّفسِ عن أن يُستَهزَأَ بك.
وأمَّا التَّعييرُ فالحَذَرُ عنِ القَولِ القَبيحِ وصيانةُ النَّفسِ عن مُرِّ الجَوابِ.
وأمَّا شِدَّةُ الحِرصِ على مَزايا العَيشِ فتُزالُ بالقَناعةِ بقَدرِ الضَّرورةِ طَلبًا لعِزِّ الاستِغناءِ، وتَرَفُّعًا عن ذُلِّ الحاجةِ.
وكُلُّ خُلُقٍ مِن هذه الأخلاقِ وصِفةٍ مِن هذه الصِّفاتِ يُفتَقَرُ في عِلاجِه إلى رياضةٍ وتَحمُّلِ مَشَقَّةٍ، وحاصِلُ رياضَتِها يَرجِعُ إلى مَعرِفةِ غَوائِلِها لتَرغَبَ النَّفسُ عنها، وتَنفِرَ عن قُبحِها، ثُمَّ المواظَبةِ على مُباشَرةِ أضدادِها مُدَّةً مَديدةً حتَّى تَصيرَ بالعادةِ مَألوفةً هَيِّنةً على النَّفسِ، فإذا انمَحَت عنِ النَّفسِ فقد زَكَت وتَطَهَّرَت عن هذه الرَّذائِلِ، وتَخَلَّصَت أيضًا عنِ الغَضَبِ الذي يَتَولَّدُ مِنها
ومِن أشَدِّ البَواعِثِ على الغَضَبِ عِندَ أكثَرِ الجُهَّالِ تَسميَتُهمُ الغَضَبَ شَجاعةً ورُجوليَّةً وعِزَّةَ نَفسٍ وكِبَرَ همَّةٍ، وتَلقيبُه بالألقابِ المَحمودةِ غَباوةً وجَهلًا حتَّى تَميلَ النَّفسُ إليه وتَستَحسِنَه، وقد يَتَأكَّدُ ذلك بحِكايةِ شِدَّةِ الغَضَبِ عنِ الأكابرِ في مَعرِضِ المَدحِ بالشَّجاعةِ، والنُّفوسُ مائِلةٌ إلى التَّشَبُّهِ بالأكابرِ فيُهَيِّجُ الغَضَبَ إلى القَلبِ بسَبَبِهـ)
[383] ((إحياء علوم الدين)) (3/ 172). .
وقال الخَطَّابيُّ: (قد قيل: إنَّ أعظَمَ أسبابِ الغَضَبِ الكِبرُ، وإنَّما يَغضَبُ الإنسانُ لِما يتداخَلُه مِنَ الكِبرِ عِندَما يُخالَفُ في أمرٍ يُريدُه، أو يُعارَضُ في شَيءٍ يَهواه، فيَحمِلُه الكِبرُ على الغَضَبِ لذلك، فإذا تَواضَعَ وذَلَّ في نَفسِه ذَهَبَت عنه عِزَّةُ النَّفسِ وماتَت سَورةُ الغَضَبِ، فسَلِم بإذنِ اللهِ مِن شَرِّهـ)
[384] ((أعلام الحديث)) (3/ 2197). .