موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: عَدَمُ إدخالِ الطَّعامِ على الطَّعامِ


يَنبَغي الأكلُ عِندَ الجوعِ، وتَركُه مَعَ الشِّبَعِ، وألَّا يُدخَلَ طَعامٌ على طَعامٍ.
فائِدةٌ في أضرارِ البطنةِ والأكلِ على شِبَعٍ
 كان يُقالُ: (المَعِدةُ بَيتُ الدَّاءِ)، وقالوا: (أصلُ كُلِّ داءٍ البَرَدةُ)، والبَرَدةُ هيَ التُّخَمةُ. قال ابنُ خَلدونَ: (مَعنى البَرَدةِ إدخالُ الطَّعامِ على الطَّعامِ في المَعِدةِ قَبلَ أن يَتِمَّ هَضمُ الأوَّلِ) [32] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 521). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (ذُكِرَ عِندَ بَعضِ العَرَبِ اللَّحمُ، فقال: إنَّه ليَقتُلُ السِّباعَ. يُريدُ إدخالَ بَعضِه على بَعضٍ قَبلَ تَمامِ الهَضمِ، واللَّهُ أعلمُ) [33] ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (2/ 72). .
وعنِ الحَسَنِ أنَّ لُقمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال لابنِه: (يا بُنَيَّ، لا تَأكُلْ شِبَعًا على شِبَعٍ؛ فإنَّك إن تُلقِه للكَلبِ خَيرٌ مِن أن تَأكُلَهـ) [34] أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (4548). .
وفي رِوايةٍ: (يا بُنَيَّ، لا تَأكُلْ شِبَعًا على شِبَعٍ، فإنَّه رُبَّ أكلةٍ قد أورَثَت صاحِبَها داءً) [35] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الجوع)) (310). .
وقال ابنُ رَجَبٍ في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مَلأ آدَميٌّ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنٍ، بحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكلاتٌ يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالةَ فثُلُثٌ لطَعامِه، وثُلُثٌ لشَرابِه، وثُلُثٌ لنَفَسِهـ)) [36] أخرجه الترمذي (2380) واللفظ له، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) من حديثِ المِقدامِ بنِ مَعديكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (5236)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2380)، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وحسَّنه البغويُّ في ((شرح السنة)) (7/293)، وابن باز في ((التعليقات البازية)) (554). : (هذا الحَديثُ أصلٌ جامِعٌ لأُصولِ الطِّبِّ كُلِّها. وقد روِيَ أنَّ ابنَ ماسَوَيهِ الطَّبيبَ لمَّا قَرَأ هذا الحَديثَ في كِتابِ أبي خيثمةَ، قال: لوِ استَعمَل النَّاسُ هذه الكَلِماتِ سَلِموا مِنَ الأمراضِ والأسقامِ، ولتَعَطَّلتِ المارَستاناتِ ودَكاكينِ الصَّيادِلةِ.
وإنَّما قال هذا؛ لأنَّ أصلَ كُلِّ داءٍ التُّخَمُ، كَما قال بَعضُهم: أصلُ كُلِّ داءٍ البَرَدةُ، ورُويَ مَرفوعًا، ولا يَصِحُّ رَفعُه.
وقال الحارِثُ بنُ كَلَدةَ طَبيبُ العَرَبِ: الحِمْيةُ رَأسُ الدَّواءِ، والبِطنةُ رَأسُ الدَّاءِ، ورَفعَه بَعضُهم، ولا يَصِحُّ أيضًا.
وقال الحارِثُ أيضًا: الذي قَتَل البَرِيَّةَ وأهلَكَ السِّباعَ في البَرِّيَّةِ إدخالُ الطَّعامِ على الطَّعامِ قَبلَ الانهضامِ.
وقال غَيرُه: لو قيل لأهلِ القُبورِ: ما كان سَبَبَ آجالِكُم؟ قالوا: التُّخَمُ. فهذا بَعضُ مَنافِعِ تَقليلِ الغِذاءِ، وتَركِ التَّمَلِّي مِنَ الطَّعامِ بالنِّسبةِ إلى صَلاحِ البَدَنِ وصِحَّتِه...
وقد نَدَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى التَّقَلُّلِ مِنَ الأكلِ في حَديثِ المِقدامِ، وقال: «حَسْبُ ابنِ آدَمَ لُقَيماتٌ يُقِمنَ صُلبَه» [37] أخرجه الترمذي (2380)، وابن ماجه (3349)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6769) واللفظ له. صححه ابن حبان في ((صحيحهـ)) (5236)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2380)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/293)، وابن باز في ((التعليقات البازية)) (554). .
وفي "الصَّحيحينِ" عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «المُؤمِنُ يَأكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرُ يَأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ» [38] أخرجه البخاري (5393) واللفظ له، ومسلم (2060) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما. وأخرجه مسلم (2061) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ وعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهم. ، والمُرادُ أنَّ المُؤمِنَ يَأكُلُ بأدَبِ الشَّرعِ، فيَأكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرُ يَأكُلُ بمُقتَضى الشَّهوةِ والشَّرَهِ والنَّهَمِ، فيَأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ.
ونَدَبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ التَّقَلُّلِ مِنَ الأكلِ والاكتِفاءِ ببَعضِ الطَّعامِ إلى الإيثارِ بالباقي مِنه، فقال: «طَعامُ الواحِدِ يَكفي الاثنَينِ، وطَعامُ الاثنَينِ يَكفي الثَّلاثةَ، وطَعامُ الثَّلاثةِ يَكفي الأربَعةَ» [39] أخرجه البخاري (5392)، ومسلم (2058) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((طَعامُ الاثنَينِ كافي الثَّلاثةِ، وطَعامُ الثَّلاثةِ كافي الأربَعةِ)). وأخرجه مسلم (2059) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظِ: ((طَعامُ الواحِدِ يَكفي الاثنَينِ، وطَعامُ الاثنَينِ يَكفي الأربَعةَ، وطَعامُ الأربَعةِ يَكفي الثَّمانيةَ)). .
وقال بَعضُ السَّلَفِ: كان شَبابٌ يَتَعَبَّدونَ في بَني إسرائيلَ، فإذا كان عِندَ فِطرِهم قامَ عليهم قائِمٌ، فقال: لا تَأكُلوا كَثيرًا؛ فتَشرَبوا كَثيرًا، فتَناموا كَثيرًا، فتَخسَروا كَثيرًا.
وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه يجوعونَ كَثيرًا، ويتَقَلَّلونَ مِن أكلِ الشَّهَواتِ [40] عن أبي هرَيرةَ، قال: ((خَرَجَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ أو لَيلةٍ، فإذا هو بأبي بَكرٍ وعُمرَ، فقال: ما أخرَجَكما من بُيوتِكما هذه السَّاعةَ؟ قالا: الجوعُ، يا رَسولَ اللهِ! قال: وأنا، والذي نَفسي بيدِه لأخرَجَني الذي أخرَجَكما! قُوموا، فقاموا مَعَه، فأتى رَجُلًا من الأنصارِ، فإذا هو ليس في بَيتِه، فلَمَّا رَأتْه المَرأةُ قالت: مَرحَبًا وأهلًا! فقال لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أينَ فُلانٌ؟ قالت: ذَهَبَ يَستَعذِبُ لنا من الماءِ، إذ جاءَ الأنصاريُّ فنَظَرَ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصاحِبَيه، ثُمَّ قال: الحَمدُ للهِ، ما أحَدٌ اليَومَ أكرَمَ أضيافًا مِنِّي! قال: فانطَلَقَ فجاءَهم بعِذقٍ فيه بُسْرٌ وتَمرٌ ورُطَبٌ، فقال: كُلوا من هذه، وأخذَ المُديةَ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إيَّاكَ والحَلُوبَ، فذَبَحَ لهم، فأكَلوا من الشَّاةِ، ومن ذلك العِذْقِ، وشَرِبوا، فلَمَّا أنْ شَبِعوا ورَوُوا قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بَكرٍ وعُمَرَ: والذي نَفسي بيدِه، لتُسألُنَّ عن هذا النَّعيمِ يَومَ القيامةِ، أخرَجَكم من بُيوتِكمِ الجوعُ، ثُمَّ لَم تَرجِعوا حَتَّى أصابَكم هذا النَّعيمُ)). أخرجه مسلم (2038). ، وإن كان ذلك لعَدَمِ وُجودِ الطَّعامِ، إلَّا أنَّ اللَّهَ لا يَختارُ لرَسولِه إلَّا أكمَلَ الأحوالِ وأفضَلَها؛ ولهذا كان ابنُ عُمَرَ يَتَشَبَّهُ بهم في ذلك مَعَ قُدرَتِه على الطَّعامِ، وكذلك كان أبوه مِن قَبلِهـ) [41] ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 468-475). .
وقال الزَّرْنوجيُّ: (طَريقُ تَقليلِ الأكلِ: التَّأمُّلُ في مَنافِعِ قِلَّةِ الأكلِ، وهيَ: الصِّحَّةُ والعِفَّةُ والإيثارُ. وقيل فيه شِعرٌ:
فعارٌ ثُمَّ عارٌ ثُمَّ عارٌ
شَقاءُ المَرءِ مِن أجلِ الطَّعامِ
وتَأمَّلْ في مَضارِّ كَثرةِ الأكلِ، وهيَ: الأمراضُ وكَلالةُ الطَّبعِ، وقيل: البِطنةُ تُذهِبُ الفِطنةَ) [42] ((تعليم المتعلم طريق التعلم)) (ص: 97). .

انظر أيضا: