سابعًا: الوِقايةُ وعَدَمُ الاختِلاطِ بأصحابِ الأمراضِ المُعديةِ
على المَرءِ سُلوكُ سُبُلِ الوِقايةِ مِنَ الآفاتِ، وعَدَمُ التَّعَرُّضِ لِما يَجلِبُها أو يَزيدُها، ومِن ذلك تَركُ الاختِلاطِ بأصحابِ الأمراضِ المُعديةِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكتابِقال تعالى:
وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ ما كان سببًا للضَّرَرِ فإنَّه مَنهيٌّ عنه؛ لقَولِه تعالى:
وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195* * يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/390). .]ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((فِرَّ مِنَ المَجذومِ [2295] المَجْذُومُ: الَّذي أصابَه الجُذامُ، وهو علَّةٌ يحمَرُّ بها اللحمُ ثمَّ ينقطِعُ ويتناثَرُ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/ 252)، ((عمدة القاري)) (21/ 246). فِرارَك مِنَ الأسَدِ)).
أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجزم (5707)، وأخرجه مَوصولًا أحمَد (9722) واللَّفظُ له. صَحَّحه البَيهَقيُّ في ((السنن الصغير)) (3/65)، والبغوي في ((شرح السنة)) (6/264)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/482)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (7530)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9722). 2-عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا عَدوى... فقال أعرابيٌّ: يا رَسولَ اللهِ، فما بالُ الإبِلِ تَكونُ في الرَّملِ كَأنَّها الظِّباءُ، فيُخالطُها البَعيرُ الأجرَبُ فيُجْرِبُها؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فمَن أعدى الأوَّلَ؟)).
أخرجه البخاري (5770) واللَّفظُ له، ومسلم (2220). وعن أبي سَلمةَ: سَمِعَ أبا هرَيرةَ بَعدُ يَقولُ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ [2298] قال ابنُ حجرٍ: (والمُمْرِضُ ... هو الذي له إبلٌ مرضَى، والمُصِحُّ ... مَن له إبلٌ صِحاحٌ، نهَى صاحبَ الإبلِ المريضةِ أن يُوردَها على الإبلِ الصَّحيحةِ). ((فتح الباري)) (10/ 242). ).
أخرجه البخاري (5771) واللَّفظُ له، ومسلم (2221). قال ابنُ الصَّلاحِ: (حَديثُ: «لا عَدوى ولا طِيَرةَ»، مَعَ حَديثِ: «لا يُورِدُ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ»، وحَديثُ: «فِرَّ مِنَ المَجذومِ فِرارَك مِنَ الأسَدِ» وَجهُ الجَمعِ بَينَهما أنَّ هذه الأمراضَ لا تُعدي بطَبعِها، ولكِنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتعالى جَعَل مُخالطةَ المَريضِ بها للصَّحيحِ سَبَبًا لإعدائِه مَرَضَه، ثُمَّ قد يَتَخَلَّفُ ذلك عن سَبَبِه كَما في سائِرِ الأسبابِ؛ ففي الحَديثِ الأوَّلِ نَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان يَعتَقِدُه الجاهليُّ مِن أنَّ ذلك يُعدي بطَبعِه؛ ولهذا قال: «فمَن أعدى الأوَّلَ؟»، وفي الثَّاني أعلَمَ بأنَّ اللَّهَ سُبحانَه جَعَل ذلك سَبَبًا لذلك، وحَذَّرَ مِنَ الضَّرَرِ الذي يَغلبُ وُجودُه عِندَ وُجودِه بفِعلِ اللهِ سُبحانَه وتعالى)
((معرفة أنواع علوم الحديث)) (ص: 284، 285). وقال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: «لا عَدوى» يُريدُ أنَّ شَيئًا لا يُعدِي شَيئًا حتَّى يَكونَ الضَّرَرُ مِن قِبَلِه، وإنَّما هو تَقديرُ اللهِ جَلَّ وعَزَّ، وسابقُ قَضائِه فيه؛ ولذلك قال: «فمَن أعدى الأوَّلَ؟»، يَقولُ: إنَّ أوَّلَ بَعيرٍ جَرِبَ مِنَ الإبِلِ لم يَكُنْ قَبلَه بَعيرٌ أجرَبُ فيُعديه، وإنَّما كان أوَّل ما ظَهَرَ الجَرَبُ في أوَّلِ بَعيرٍ مِنها بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه، فكذلك ما ظَهَرَ مِنه في سائِرِ الإبِلِ بَعدُ. وأمَّا قَولُه: «لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ» فالمُمرِضُ: الذي مَرِضَت ماشيَتُه، والمُصِحُّ: هو صاحِبُ الصِّحاحِ مِنها، كَما قيل: رَجُلٌ مُضعِفٌ: إذا كانت دَوابُّه ضِعافًا، ومُقوٍ: إذا كانت أقوياءَ، وليسَ المَعنى في النَّهيِ عن هذا الصَّنيعِ مِن أنَّ المَرضى تُعدي الصِّحاحَ، ولكِنَّ الصِّحاحَ إذا مَرِضَت بإذنِ اللهِ وتَقديرِه وقَعَ في نَفسِ صاحِبِه أنَّ ذلك إنَّما كان مِن قِبَلِ العَدوى، فيَفتِنُه ذلك ويُشَكِّكُه في أمرِه؛ فأُمِرَ باجتِنابِه والمُباعَدةِ عنه لهذا المَعنى). ((معالم السنن)) (4/ 233، 234). ويُنظر: ((معارج القبول)) لحافظ الحكمي (3/ 985). .
3- عن عَمرِو بنِ الشَّريدِ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان في وفدِ ثَقيفٍ رَجُلٌ مَجذومٌ، فأرسَل إليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّا قد بايَعناك فارجِعْ)).
أخرجه مسلم (2231). 4-عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((غَطُّوا الإناءَ، وأوكوا السِّقاءَ، وأغلِقوا البابَ، وأطفِئوا السِّراجَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَحُلُّ سِقاءً، ولا يَفتَحُ بابًا، ولا يَكشِفُ إناءً، فإن لم يَجِدْ أحَدُكُم إلَّا أن يَعرُضَ على إنائِه عُودًا ويَذكُرَ اسمَ اللهِ، فليَفعَلْ...)).
أخرجه مسلم (2012). .
وفي رِوايةٍ:
((غَطُّوا الإناءَ، وأوكوا السِّقاءَ؛ فإنَّ في السَّنةِ ليلةً يَنزِلُ فيها وباءٌ، لا يَمُرُّ بإناءٍ ليسَ عليه غِطاءٌ، أو سِقاءٍ ليسَ عليه وِكاءٌ، إلَّا نَزَل فيه مِن ذلك الوَباءِ)).
أخرجها مسلم (2014). قال النَّوويُّ: (ذَكَرَ العُلَماءُ للأمرِ بالتَّغطيةِ فوائِدَ، مِنها الفائِدَتانِ اللَّتانِ ورَدَتا في هذه الأحاديثِ، وهما صيانَتُه مِنَ الشَّيطانِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَكشِفُ غِطاءً ولا يَحُلُّ سِقاءً، وصيانَتُه مِنَ الوباءِ الذي يَنزِلُ في ليلةٍ مِنَ السَّنةِ، والفائِدةُ الثَّالثةُ: صيانَتُه مِنَ النَّجاسةِ والمُقَذَّراتِ، والرَّابعةُ: صيانَتُه مِنَ الحَشَراتِ والهَوامِّ؛ فرُبَّما وقَعَ شَيءٌ مِنها فيه فشَرِبَه وهو غافِلٌ، أو في اللَّيلِ فيَتَضَرَّرُ به)
((شرح مسلم)) (13/ 183). .
فائِدةٌ:قال الشَّاطِبيُّ: (المُؤذياتُ والمُؤلِماتُ خَلقَها اللهُ تعالى ابتِلاءً للعِبادِ وتَمحيصًا، وسَلَّطَها عليهم كَيف شاءَ ولِما شاءَ:
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ الأنبياء: 23، وفُهِم مِن مَجموعِ الشَّريعةِ الإذنُ في دَفعِها على الإطلاقِ رَفعًا للمَشَقَّةِ اللَّاحِقةِ، وحِفظًا على الحُظوظِ التي أذِنَ لهم فيها، بَل أذِنَ في التَّحَرُّزِ مِنها عِندَ تَوقُّعِها وإن لم تَقَعْ، تَكمِلةً لمَقصودِ العَبدِ، وتَوسِعةً عليه، وحِفظًا على تَكميلِ الخُلوصِ في التَّوجُّهِ إليه، والقيامِ بشُكرِ النِّعَمِ.
فمِن ذلك الإذنُ في دَفعِ ألمِ الجوعِ والعَطَشِ، والحَرِّ والبَردِ، وفي التَّداوي عِندَ وُقوعِ الأمراضِ، وفي التَّوقِّي مِن كُلِّ مُؤذٍ، آدَميًّا كان أو غَيرَه، والتَّحَرُّزِ مِنَ المُتَوقَّعاتِ حتَّى يُقدِّمَ العُدَّةَ لها، وهَكَذا سائِرُ ما يَقومُ به عَيشُه في هذه الدَّارِ مِن دَرءِ المَفاسِدِ وجَلبِ المَصالحِ، ثُمَّ رَتَّبَ له مَعَ ذلك دَفعَ المُؤلِماتِ الأُخرَويَّةِ، وجَلبَ مَنافِعِها بالتِزامِ القَوانينِ الشَّرعيَّةِ، كَما رَتَّبَ له ذلك فيما يَتَسَبَّبُ عن أفعالِه، وكَونُ هذا مَأذونًا فيه مَعلومٌ مِنَ الدِّينِ ضَرورةً)
((الموافقات)) (2/ 260، 261). .
الحَجرُ الصِّحِّيُّ:إذا وقَعَ وباءٌ مُعْدٍ في بَلدٍ -كالطَّاعونِ- فلا يَخرُجُ مِنَ البَلدِ أحَدٌ، ولا يَدخُلُها أحَدٌ مِن غَيرِ ضَرورةٍ
قال الغَزاليُّ: (لو رُخِّصَ للأصِحَّاءِ في الخُروجِ لَما بَقيَ في البَلدِ إلَّا المَرضى الذينَ أقعَدَهمُ الطَّاعونُ، فانكَسَرَت قُلوبُهم وفقدوا المُتَعَهِّدينَ، ولم يَبقَ في البَلدِ مَن يَسقيهمُ الماءَ ويُطعِمُهمُ الطَّعامَ، وهم يَعجِزونَ عن مُباشَرَتِهما بأنفُسِهم، فيَكونُ ذلك سَعيًا في إهلاكِهم تَحقيقًا، وخَلاصُهم مُنتَظَرٌ، كَما أنَّ خَلاصَ الأصِحَّاءِ مُنتَظَرٌ، فلو أقاموا لم تَكُنِ الإقامةُ قاطِعةً بالمَوتِ، ولو خَرَجوا لم يَكُنِ الخُروجُ قاطِعًا بالخَلاصِ، وهو قاطِعٌ في إهلاك الباقينَ، والمسلمونَ كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا، والمُؤمِنونَ كالجَسَدِ الواحِدِ إذا اشتَكى مِنه عُضوٌ تَداعى إليه سائِرُ أعضائِه، فهذا هو الذي يَنقدِحُ عِندَنا في تَعليلِ النَّهيِ، ويَنعَكِسُ هذا فيمَن لم يَقدَمْ بَعدُ على البَلدِ؛ فإنَّه لم يُؤَثِّرِ الهَواءُ في باطِنِهم، ولا بأهلِ البَلدِ حاجةٌ إليهم، نَعَم، لو لم يَبقَ بالبَلدِ إلَّا مَطعونونَ وافتَقَروا إلى المُتَعَهِّدينَ وقَدِمَ عليهم قَومٌ، فرُبَّما كان يَنقدِحُ استِحبابُ الدُّخولِ هاهنا لأجلِ الإعانةِ، ولا يُنهى عنِ الدُّخولِ؛ لأنَّه تَعَرُّضٌ لضَرَرٍ مَوهومٍ على رَجاءِ دَفعِ ضَرَرٍ عن بَقيَّةِ المسلمينَ، وبهذا شُبِّه الفِرارُ مِنَ الطَّاعونِ في بَعضِ الأخبارِ بالفِرارِ مِنَ الزَّحفِ). ((إحياء علوم الدين)) (4/ 291). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1-عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إذا سَمِعتُم بالطَّاعونِ بأرضٍ فلا تَدخُلوها، وإذا وقَعَ بأرضٍ وأنتُم بها فلا تَخرُجوا مِنها)).
أخرجه البخاري (5728). وفي رِوايةٍ:
((إنَّ هذا الطَّاعونَ رِجزٌ الرِّجزُ: العَذابُ، وكُلُّ عَذابٍ أُنزِلَ على قَومٍ فهو رِجزٌ. يُنظر: ((العين)) للخليل (6/ 66). سُلِّطَ على مَن كان قَبلَكُم، أو على بَني إسرائيلَ، فإذا كان بأرضٍ فلا تَخرُجوا مِنها فِرارًا مِنه، وإذا كان بأرضٍ فلا تَدخُلوها)).
أخرجها مسلم (2218). وفي رِوايةٍ:
((إنَّ هذا الوجَعَ أوِ السَّقَمَ رِجزٌ عُذِّب به بَعضُ الأُمَمِ قَبلَكُم، ثُمَّ بَقيَ بَعدُ بالأرضِ، فيَذهَبُ المَرَّةَ ويَأتي الأُخرى، فمَن سَمِع به بأرضٍ فلا يَقدَمَنَّ عليه، ومَن وقَعَ بأرضٍ وهو بها فلا يُخرِجَنَّه الفِرارُ مِنه)) أخرجها مسلم (2218). .
و(دَوافِعُ الخُروجِ لا تَخلو عنِ احتِمالاتٍ أربَعةٍ: الخُروجُ بدافِعِ مَصلحةٍ ضَروريَّةٍ فقَط، أو بدافِعِ المَصلحةِ الضَّروريَّةِ والفِرارِ، أو بدافِعِ الفِرارِ فقَط، أوِ اتِّفاقًا وعَفوًا بدونِ دافِعٍ.
ولفظُ الحَديثِ السَّابقِ: «فلا تَخرُجوا فِرارًا مِنه» يَحتَمِلُ النَّهيَ عنِ الخُروجِ في صورَتَينِ: صورةِ أن يَكونَ الدَّافِعُ الفِرارَ وَحدَه، وصورةِ أن يَكونَ الدَّافِعُ الفِرارَ مَعَ غَيرِه...
ولا خِلافَ في النَّهيِ عنِ الخُروجِ فِرارًا، وهو حينَ يتمَحَّضُ أشَدُّ مَنعًا مِنه حينَ تَشتَرِكُ مَعَه مَصلحةٌ، فالفِرارُ مَعناه ضِعفُ الإيمانِ بالقَضاءِ والقَدَرِ، واللَّهُ تعالى يَقولُ:
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب: 16، 17].
وما أكثَرَ الذينَ يَموتونَ على فِراشِهم دونَ طاعونٍ! وما أكثَرَ الذينَ يفاجَؤون بالمَوتِ في طَريقِهم دونَ أمراضٍ، و
لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد: 38]،
لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] .
ومَن لم يَمُتْ بالسَّيفِ ماتَ بغَيرِه ... تَعَدَّدَتِ الأسبابُ والمَوتُ واحِدُ
وماذا يُفيدُ الحِرصُ على الفِرارِ مِنَ الوباءِ إذا كُنَّا نُؤمِنُ بأنَّ اللَّهَ هو الذي أعدى الأوَّلَ مِنَ المُصابينَ؟!
ومَعَ ذلك فالخُروجُ مِن أرضِ الطَّاعونِ يُعَرِّضُ مَن هم خارِجَ الأرضِ للخَطَرِ، ويَتَسَبَّبُ في انتِشارِ الوباءِ واتِّساعِ رُقعَتِه، ودَرءُ هذا مَصلحةٌ عامَّةٌ واجِبةُ الرِّعايةِ وإن لم يَنُصَّ عليها الحَديثُ صَراحةً، لكِن إذا جَعَلنا قَيدَ «فِرارًا» قَيدًا لِما هو الشَّأنُ والغالبُ، واعتَمَدنا الحُكمَ بدونِه كَما في قَولِه تعالى:
لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران: 130] كان الخُروجُ مَنهيًّا عنه، سَواءٌ كان مِن دافِعِه الفِرارُ أم لم يَكُنْ)
((المنهل الحديث)) (3/ 196). وقال لاشِين: (نَعَم، قد تَكونُ هناكَ ضَروراتٌ ومَصالِحُ عامَّةٌ أو ضَروراتٌ ومَصالِحُ شَخصيَّةٌ تُقَدَّرُ بقَدْرِها مَعَ الموازَنةِ بَينَها وبَينَ ما يَتَرَتَّبُ على الخُروجِ مِن أضرارٍ، وهذا ما نَستَريحُ إليه. لكِنَّ العُلماءَ اختَلفت آراؤُهم في ذلك؛ فقد نَقَل القاضي عياضٌ وغَيرُه عن بَعضِ الصَّحابةِ جَوازَ الخُروجِ مِنَ الأرضِ التي يَقَعُ بها الطَّاعونُ، وقال قَومٌ: يَحرُمُ الخُروجُ مِنها، وهذا هو الرَّاجِحُ عِندَ الشَّافِعيَّةِ وغَيرِهم، وقال قَومٌ: يَحرُمُ الخُروجُ لمُجَرَّدِ الفِرارِ لا لغَرَضٍ آخَرَ، فالخُروجُ إلى الأسفارِ والحَوائِجِ مُباحٌ، واللهُ أعلَمُ). ((المصدر السابق)). .
و(الصَّحيحُ أنَّ عِلَّةَ النَّهيِ عنِ القُدومِ عليه التَّحَرُّزُ مِنَ العَدوى؛ فإنَّ السَّليمَ إذا دَخَل أرضَ وباءٍ مُعْدٍ لعَرَّض نَفسَه للعَدوى والإصابةِ، والنَّهيُ عن خُروجِ مَن وَقَع الطَّاعونُ بأرضٍ هو بها، عَدَمُ نَقلِ العَدوى مِن مَكانِ الوباءِ إلى غَيرِه، ومَنعُ انتِشارِه، وهذا هو المَعروفُ في عُرفِ الطِّبِّ في أرقى العُصورِ بالعَزلِ الصِّحِّيِّ، أوِ الحَجرِ الصِّحِّيِّ، أي مُحاصَرةِ المَرَضِ المُعدي في أضيَقِ حُدودِه، وهذا لا يَتَعارَضُ مَعَ الإيمانِ بالقَضاءِ والقَدَرِ، ولا مَعَ أنَّ العَدوى لا تُؤَثِّرُ بنَفسِها، بَل بإرادةِ اللهِ تعالى.
وقيل: إنَّ حِكمةَ النَّهيِ عنِ القُدومِ عليه أن لا يَندَمَ مَن قَدِمَ عليه فأُصيبَ بتَقديرِ اللهِ تعالى، فيَقولَ: لولا أنِّي قَدِمتُ هذه الأرضَ لما أصابَني، يا ليتَني لم أَقدَمْ إليها، مَعَ أنَّه رُبَّما لو أقامَ في المَوضِعِ الذي كان فيه لأصابَه، فأُمِر أن لا يَقدَمَ عليه حَسمًا لهذا النَّدَمِ، لا للوِقايةِ الفِعليَّةِ، ونُهيَ مَن وقَعَ وهو بها أن يَخرُجَ مِنَ الأرضِ التي نَزَل بها الطَّاعونُ؛ لئَلَّا يَقولَ إذا خَرَجَ ونَجا: لو أقَمتُ بها لأصابَني ما أصابَ أهلَها، مَعَ أنَّه لو أقامَ بها رُبَّما لم يُصِبْه المَرَضُ، فالمَنعُ مِنَ الخُروجِ لئَلَّا يَنجَرِفَ إلى اعتِمادِ الأسبابِ العاديَّةِ، ويَنسى أو يُقَلِّلَ مِن تَقديرِ اللهِ.
ويُؤَيِّدُ هذا التَّعليلَ ما أخرجه الهَيثَمُ بنُ كُلَيبٍ والطحاويُّ والبيهقيُّ بسَنَدٍ حَسَنٍ عن أبي موسى أنَّه قال: "إنَّ هذا الطَّاعونَ قد وقَعَ، فمَن أرادَ أن يَتَنَزَّهَ عنه فليَفعَلْ، واحذَروا اثنَتَينِ: أن يَقولَ قائِلٌ: خَرَجَ خارِجٌ فسَلِم، وجَلسَ جالسٌ فأُصيبَ، فلو كُنتُ خَرَجتُ لسَلِمتُ كَما سَلِمَ فلانٌ، أو لو كُنتُ جَلَستُ لأُصِبتُ كَما أُصيبَ فُلانٌ"
أخرجه الشاشي في ((المسند)) (618)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (7039)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (25/484) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ الطَّحاويِّ: عن طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: كُنَّا نَتَحَدَّثُ إلى أبي موسى الأشعَريِّ. فقال لنا ذاتَ يَومٍ: لا عليكُم أن تَخْفَوا عنِّي؛ فإنَّ هذا الطَّاعونَ قد وقَعَ في أهلي، فمَن شاءَ مِنكُم أن يَتَنَزَّهَ فليَتَنَزَّهْ، واحذَروا اثنَتَينِ: أن يَقولَ قائِلٌ: خَرَجَ خارِجٌ فسَلِم ، وجَلسَ جالسٌ فأُصيبَ، لو كُنتُ خَرَجتُ لسَلِمتُ كَما سَلِمَ آلُ فلانٍ، أو يَقولَ قائِلٌ: لو كُنتُ جَلَستُ لأُصِبتُ كَما أُصيبَ آلُ فُلانٍ. حَسَّنَ إسنادَه ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (10/199). )
((فتح المنعم)) (8/ 600، 601). .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالت:
((سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الطَّاعونِ، فأخبَرَني أنَّه عَذابٌ يَبعَثُه اللهُ على مَن يَشاءُ، وأنَّ اللَّهَ جَعَله رَحمةً للمُؤمِنينَ، ليسَ من أحَدٍ يَقَعُ الطَّاعونُ فيَمكُثُ في بَلدِه صابرًا مُحتَسِبًا، يَعلمُ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلَّا كان له مِثلُ أجرِ شَهيدٍ)).
أخرجه البخاري (3474). 3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَفنى أُمَّتي إلَّا بالطَّعنِ والطَّاعونِ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هذا الطَّعنُ قد عَرَفناه، فما الطَّاعونُ؟ قال: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعيرِ، المُقيمُ بها كالشَّهيدِ، والفارُّ مِنها كالفارِّ مِنَ الزَّحفِ)).
أخرجه من طرق أحمد (25118) واللفظ له، وأبو يعلى (4408) باختلافٍ يسيرٍ، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5531) بنحوه. حَسَّنه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (1408)، وجَوَّد إسنادَه العِراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (2/310)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (25118)، وحَسَّنه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/294). 4- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه خَرَجَ إلى الشَّامِ، حتَّى إذا كان بسَرْغَ
سَرْغُ: هيَ قَريةٌ في طَرَفِ الشَّامِ مِمَّا يَلي الحِجازَ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 136)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 208). لقيَه أهلُ الأجنادِ
أهلُ الأجنادِ، وفي رِوايةٍ: أُمَراءُ الأجنادِ، والمُرادُ بالأجنادِ هنا مُدُنُ الشَّامِ الخَمسُ، وهيَ: فِلَسطينُ، والأُردُنُّ، ودِمَشقُ، وحِمص، وقِنَّسرينُ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 208). أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ وأصحابُه، فأخبَروه أنَّ الوباءَ قد وقَعَ بالشَّامِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: فقال عُمَرُ: ادعُ لي المُهاجِرينَ الأوَّلينَ
المُهاجِرونَ الأوَّلونَ: هم مَن صَلَّى للقِبلَتَينِ، وأمَّا مَن لم يَسلِمْ إلَّا بَعدَ تَحويلِ القِبلةِ فلا يُعَدُّ في الأوَّلينَ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 137)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 209). فدَعَوتُهم، فاستَشارَهم، وأخبَرَهم أنَّ الوباءَ قد وقَعَ بالشَّامِ، فاختَلفوا؛ فقال بَعضُهم: قد خَرَجتَ لأمرٍ ولا نَرى أن تَرجِعَ عنه، وقال بَعضُهم: مَعَك بَقيَّةُ النَّاسِ وأصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا نَرى أن تُقدِمَهم على هذا الوباءِ، فقال: ارتَفِعوا عنِّي، ثُمَّ قال: ادعُ لي الأنصارَ فدَعَوتُهم له، فاستَشارَهم، فسَلكوا سَبيلَ المُهاجِرينَ، واختَلفوا كاختِلافِهم، فقال: ارتَفِعوا عنِّي، ثُمَّ قال: ادعُ لي مَن كان هاهنا مِن مَشيَخةِ قُرَيشٍ مِن مُهاجِرةِ الفتحِ
مُهاجِرةُ الفَتحِ: قيل: همُ الذينَ أسلَموا قَبلَ الفتحِ فحَصَل لهم فضلٌ بالهجرةِ قَبلَ الفتحِ؛ إذ لا هجرةَ بَعدَ الفتحِ، وقيل: هم مُسلِمةُ الفتحِ الذينَ هاجَروا بَعدَه، فحَصَل لهمُ اسمٌ دونَ الفضيلةِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 137)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 209). ، فدَعوتُهم فلم يَختَلِفْ عليه رَجُلانِ، فقالوا: نَرى أن تَرجِعَ بالنَّاسِ ولا تُقدِمَهم على هذا الوباءِ، فنادى عُمَرُ في النَّاسِ: إنِّي مُصبِحٌ على ظَهرٍ، فأصبِحوا
مُصبِحٌ على ظَهرٍ فأصبِحوا: أي: مُسافِرٌ راكِبٌ على ظَهرِ الرَّاحِلةِ راجِعٌ إلى وطَني، فأصبِحوا عليه وتَأهَّبوا له. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 210). عليه، فقال أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ: أفِرارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ؟ فقال عُمَرُ: لو غَيرُك قالها يا أبا عُبَيدةَ! -وكان عُمَرُ يَكرَهُ خِلافَه- نَعَمْ، نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللهِ إلى قَدَرِ اللهِ! أرَأيتَ لو كانت لك إبِلٌ فهَبَطَت واديًا له عُدوتانِ
العُدوةُ -بضَمِّ العَينِ وكَسرِها-: جانِبُ الوادي. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 210). ، إحداهما خَصِبةٌ والأُخرى جَدبةٌ، أليسَ إن رَعَيتَ الخَصِبةَ رَعَيتَها بقدَرِ اللهِ، وإن رَعَيتَ الجَدبةَ رَعَيتَها بقدَرِ اللهِ؟ قال: فجاءَ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ، وكان مُتَغَيِّبًا في بَعضِ حاجَتِه، فقال: إنَّ عِندي مِن هذا عِلمًا، سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «إذا سَمِعتُم به بأرضٍ فلا تَقدَموا عليه، وإذا وقَعَ بأرضٍ وأنتُم بها فلا تَخرُجوا فِرارًا مِنه» قال: فحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، ثُمَّ انصَرَف.
أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219) واللَّفظُ له