موسوعة التفسير

سورةُ مَريمَ
الآيات (22-26)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

قَصِيًّا: أي: نائيًا بَعيدًا، وأصلُ (قصو): يدُلُّ على بُعدٍ وإبعادٍ .
فَأَجَاءَهَا: أي: ألجَأها واضْطرَّها، يُقالُ: جاء بها وأجاءَها: بمعنًى .
الْمَخَاضُ: أي: وجَعُ الوِلادةِ، وهو الطَّلْقُ، وسُمِّي مخاضًا مِن المَخْضِ، وهو الحركةُ الشَّديدةُ؛ لشدَّةِ تحرُّكِ الجنينِ في بطنِها إذا أرادَ الخروجَ، وأصلُ المخضِ: تحريكُ سقاءِ اللبنِ وهزُّه؛ ليجتمِعَ زُبدُه وسَمنُه .
نَسْيًا مَنْسِيًّا: أي: شَيئًا حَقيرًا لا يُؤبَهُ له، وأصلُ (نسي): يدُلُّ على تَركِ الشَّيءِ وإغفالِه .
سَرِيًّا: أي: جَدولًا ونَهرًا صغيرًا، وسُمِّيَ النَّهرُ سَرِيًّا؛ لأنَّ الماءَ يسري فيه، أي: يمُرُّ جاريًا. وقيل: بل ذلك من السَّرْوِ، أي: الرِّفعةِ، والإشارةُ بذلك إلى عيسى عليه السَّلامُ .
جَنِيًّا: أي: مَجْنيًّا غَضًّا طَرِيًّا، وجَنَى الشَّجرةِ: ما جُنِيَ منها، وأصلُ (جني): يدُلُّ على أخْذِ الثَّمرةِ مِن شَجَرِها .
وَقَرِّي عَيْنًا: أي: طِيبي نَفسًا، وأصلُه من القُرِّ، أي: البَردِ، فَقَرَّتْ عينه، أي: بَرَدَت، وقيل: هو من القَرارِ؛ لأنَّ اللهَ أعطاها ما تَسكُنُ به عينُها فلا تطمَحُ إلى غيرِه .
صَوْمًا: أي: صَمتًا، والصَّوْمُ في الأصلِ: الإمساكُ عن الفِعلِ مَطعمًا كان أو كلامًا أو مَشيًا .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ الله تعالى عن مشهدٍ آخرَ مِن مشاهدِ تلك القصةِ العجيبةِ، حينَ حمَلت مريمُ بعيسى عليه السلامُ، وعندما جاءَها المخاضُ، فيقولُ تعالى: فحَمَلت مريمُ بعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فتباعَدَت به إلى مَكانٍ بعيدٍ عن النَّاسِ، فألجأها طَلْقُ الحَملِ ووجعُ الولادةِ إلى جِذعِ النَّخلةِ، فقالت: يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا اليومِ، وكنتُ شيئًا لا يُعرَفُ ولا يُذكَرُ! فناداها مولودُها عيسى مِن تحتِها عندما وضَعتْه: أنْ لا تَحزني، قد جعل ربُّكِ تحت قَدَميك جَدْولَ ماءٍ، وحَرِّكي جِذعَ النَّخلةِ تُسَاقِطْ عليك النَّخلةُ رطبًا طريًّا طيِّبًا، فكُلي من الرُّطَب، واشرَبي من الماءِ، وطِيـبي نفسًا، ولا تحزني، فإنْ رأيتِ مِن النَّاسِ أحدًا فسَألَكِ عن أمْرِك، فقولي له: إني أوجَبْتُ على نفسي لله سُكوتًا، فلن أكَلِّمَ اليومَ أحدًا من النَّاسِ.

تفسير الآيات:

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22).
فَحَمَلَتْهُ.
أي: فحَمَلَت مريمُ بعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا.
أي: فتنحَّت بحَمْلِها إلى مكانٍ بعيدٍ عن النَّاسِ .
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23).
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ.
أي: فألجأَها ألمُ الطَّلْقِ إلى جِذعِ نَخلةٍ .
قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.
أي: قالت: يا ليتني مِتُّ قبل أن أحمِلَ هذا الغلامَ مِن غيرِ زَوجٍ، وكنتُ شَيئًا حقيرًا يُترَكُ ويُنسَى فلا يَخطُرُ على بالٍ !
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24).
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي.
أي: فناداها مولودُها عيسَى مِن تَحتِها عندما وضَعَتْه قائِلًا لها: لا تَحزَني .
قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا.
أي: قد أجرى ربُّك تحت قَدَميك نهرًا صغيرًا؛ لتَشربي منه .
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25).
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ.
أي: وحَرِّكي جِذعَ النَّخلةِ .
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا.
أي: تُسْقِطْ عليكِ النَّخلةُ رُطَبًا طَرِيًّا طيِّبًا نافعًا .
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26).
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا.
أي: فكُلي من الرُّطَبِ، واشرَبي مِن ماءِ النَّهرِ، وطيبي نفسًا، وافرَحي ولا تحزَني .
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا.
أي: فإنْ رأيتِ أحدًا من النَّاسِ يُريدُ أن يُكلِّمَكِ فقُولي : إنِّي أوجبتُ على نفسي للرَّحمنِ أن أُمسِكَ عن الكلامِ .
فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.
أي: فلن أكلِّمَ اليومَ أحدًا من النَّاسِ .

الفوائد التربوية :

1- قَولُ الله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فيه أمرٌ بالسَّبَبِ في الرزقِ، وتكَلُّفِ الكَسبِ ، واستُدِلَّ مِن هذه الآيةِ على أنَّ الرِّزقَ وإن كان محتومًا، فإنَّ اللهَ تعالى قد وكلَ ابنَ آدمَ إلى سعيٍ ما فيه؛ لأنَّه أمَرَ مريمَ بهَزِّ النَّخلةِ؛ لترى آيةً، وكانت الآيةُ تكونُ بألَّا تَهُزَّ ، فأخذ بعضُ العُلَماءِ مِن هذه الآيةِ أنَّ السَّعيَ والتسَبُّبَ في تحصيلِ الرِّزقِ أمرٌ مأمورٌ به شرعًا، وأنَّه لا ينافي التوكُّلَ على الله جلَّ وعلا، وهذا أمرٌ كالمعلومِ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ: أنَّ الأخذَ بالأسبابِ في تحصيلِ المنافِعِ، ودَفعِ المضارِّ في الدُّنيا؛ أمرٌ مأمورٌ به شَرعًا لا ينافي التوكُّلَ على اللهِ بحالٍ؛ لأنَّ المكَلَّفَ يتعاطى السَّبَبَ امتِثالًا لأمرِ رَبِّه، مع عِلمِه ويقينِه أنَّه لا يقَعُ إلَّا ما يشاءُ اللهُ وُقوعَه، فهو متوكِّلٌ على اللهِ، عالمٌ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كتَبَ اللهُ له مِن خيرٍ أو شَرٍّ، ولو شاء الله تَخلُّفَ تأثيرِ الأسبابِ عن مُسَبِّباتِها، لتخلَّفَ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أمَرَها اللهُ تعالى بأن تنذرَ الصَّومَ؛ لئلَّا تَشرعَ مع مَن اتَّهمها في الكلامِ لِمَعنيين:
أحدُهما: أنَّ كلامَ عيسى عليه السَّلامُ أقوى في إزالةِ التُّهمةِ مِن كلامِها، وفيه دَلالةٌ على أنَّ تفويضَ الأمرِ إلى الأفضَلِ أَولى.
والثاني: كراهةُ مُجادلةِ السُّفهاءِ، وفيه أنَّ السُّكوتَ عن السَّفيهِ واجِبٌ، ومِن أذَلِّ النَّاسِ سَفيهٌ لم يجِدْ مُسافِهًا .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى حكايةً عن مريمَ: وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا تمنَّتْ لو كانت شيئًا لا يُؤْبَهُ له، من شأْنِه وحقِّه أنْ يُنْسى في العادةِ، وقد نُسِيَ وطُرِحَ، فوُجِدَ فيه النِّسيانُ الَّذي هو حقُّه؛ وذلك لِما لحِقَها مِن فرطِ الحياءِ والخجلِ مِن النَّاسِ على حُكمِ العادةِ البشريَّةِ، لا كراهةً لحُكمِ اللهِ. أو لشدَّةِ التَّكليفِ عليها إذا بَهَتوها وهي عارفةٌ ببَراءةِ السَّاحةِ، وبضِدِّ ما عِيبَتْ به، مِن اختصاصِ اللهِ إيَّاها بغايةِ الإجلالِ والإكرامِ؛ لأنَّه مقامٌ دَحْضٌ، قلَّما تثبُتُ عليه الأقدامُ: أنْ تعرِفَ اغتباطَكَ بأمْرٍ عظيمٍ وفضْلٍ باهرٍ، تستحِقُّ به المدحَ وتستوجِبُ التَّعظيمَ، ثمَّ تراهُ عندَ النَّاسِ -لجَهْلِهم به- عيبًا يُعابُ به ويُعنَّفُ بسَببِه، أو لخوفِها على النَّاسِ أنْ يَعْصوا اللهَ بسببِها .
2- قَولُ اللهِ تعالى إخبارًا عن مريمَ عليها السَّلامُ: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا فيه دَليلٌ على جوازِ تمنِّي الموتِ عندَ الفِتنةِ؛ فإنَّها عَرَفَت أنَّها ستُبتلَى وتُمتحَنُ بهذا المولودِ الذي لا يحمِلُ النَّاسُ أمرَها فيه على السَّدادِ، ولا يصَدِّقونها في خبرِها، وبعدما كانت عندَهم عابِدةً ناسِكةً تُصبِحُ عِندَهم -فيما يظنُّونَ- عاهرةً زانيةً ، فمريمُ تمنَّت الموتَ مِن جهةِ الدِّينِ؛ إذ خافت أن يُظَنَّ بها الشَّرُّ في دينِها وتُعيَّرَ؛ فيَفتِنَها ذلك، وهذا مباحٌ، وعلى هذا الحَدِّ تمنَّاه جماعةٌ مِن الصالحينَ. ونَهيُ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن تمنِّي الموتِ إنَّما هو لِضُرٍّ نَزَل بالبَدَنِ .
3- قولُه تعالى: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا في هذا دليلٌ على مقامِ صبْرِها وصدْقِها في تلقِّي البَلوَى الَّتي ابتلاها اللهُ تعالى؛ فلذلك كانت في مقامِ الصِّدِّيقيَّةِ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فيه أصلٌ لِما يقولُه الأطبَّاءُ: إنَّ الرُّطَبَ ينفَعُ النُّفَساءَ ، وقال عمرُو بنُ مَيمونٍ: (ما من شَيءٍ خَيرٌ للنُّفَساءِ مِن التَّمرِ والرُّطَبِ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ الكريمةَ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) .
5- قال الله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فأُعْطِيَت رُطبًا دونَ التَّمرِ؛ لأنَّ الرُّطبَ أشهَى للنَّفْسِ؛ إذ هو كالفاكهةِ، وأمَّا التَّمرُ فغِذاءٌ .
6- إنْ قيل: ما كان حزنُها لفقْدِ الطَّعامِ والشَّرابِ حتَّى تُسلَّى بالسَّريِّ والرُّطبِ؟
فالجوابُ: لم تقَعِ التَّسليةُ بهما مِن حيثُ إنَّهما طعامٌ وشرابٌ، ولكنْ من حيثُ إنَّهما مُعجزتانِ تُريانِ النَّاسَ أنَّها من أهلِ العصمةِ، والبُعدِ من الرِّيبةِ، وأنَّ مثْلَها ممَّا قَرَفوها به بمَعزلٍ، وأنَّ لها أُمورًا إلهيَّةً خارجةً عن العاداتِ، خارقةً لِما ألِفُوا واعتادوا، حتَّى يتبيَّنَ لهم أنَّ وِلادَها من غيرٍ فحْلٍ ليس ببِدْعٍ مِن شأنِها .
7- قصةُ مريمَ فيها كرامةٌ مِن عِدَّةِ أوجُهٍ:
الأول: أنَّه فقد قيلَ لها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا وهي امرأةٌ نُفَساءُ، والمرأةُ النُّفَساءُ عادةً تكونُ ضعيفةً، والهَزُّ بجِذعِ النَّخلةِ لا يتأتَّى، بل إنَّه صَعبٌ؛ فإنَّ الرجُلَ القَويَّ إذا هزَّها مِن أسفَلَ لا تهتَزُّ، لكنَّ مَريمَ قيل لها: هُزِّي بجِذعِ النَّخلةِ، فهَزَّت؛ فاهتَزَّت النَّخلةُ، وهذه كرامةٌ.
الثاني: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، والعادةُ أنَّ الرُّطَبَ إذا تساقَطَ مِن فَوقِ النَّخلةِ، فإنَّه يَفسُدُ ويتفضَّخُ ، لكِنَّه في شأنِها بَقِيَ رُطَبًا جَنيًّا، وهذه كرامةٌ!
الثالث: أنَّه ولَمَّا جاءت تحمِلُ الولَدَ فقالوا لها مُعرِّضينَ لها بالزِّنا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28] ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم: 29] فكلَّمَهم، وهذه كرامةٌ.
فهذه كراماتٌ، وهي في الحقيقةِ تُشبِهُ آياتِ الأنبياءِ، لكِنَّ الفَرقَ بينهما أنَّ آياتِ الأنبياءِ تأتي من النبيِّ، وكرامةَ الأولياءِ تأتي مِن وليٍّ مُتَّبِعٍ للنبيِّ .
8- النكرةُ في سياقِ الشَّرطِ تَعُمُّ؛ يُستفاد ذلك مِن قولِه تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي ... .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا
- قولُه: فَحَمَلَتْهُ ... الفاءُ للتَّفريعِ والتَّعقيبِ، أي: فحمَلَتْ بالغُلامِ في فورِ تلك المُراجعةِ . وفي الكلامِ إيجازٌ، والتَّقديرُ: فاطمأنَّتْ إلى قولِه، فدنا منها، فنفَخَ في جَيبِ درعِها، فوصَلَتِ النَّفخةُ إلى بطْنِها، فحمَلَتْ .
2- قوله تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا
- قولُه: جِذْعِ النَّخْلَةِ التعريفُ فيه إمَّا أن يكونَ مِن تعريفِ الأسماءِ الغالبةِ؛ كتعريفِ النجمِ، كأنَّ تلك الصحراءَ كان فيها جذعُ نخلةٍ متعارَفٌ عندَ الناسِ، فإذا قيل: «جذع النخلة». فُهِمَ منه ذاك، وإمَّا أن يكونَ تعريفَ الجنسِ .
- وجُملةُ: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ السَّامعَ يتشوَّفُ إلى معرفةِ حالِها عندَ إبَّانِ وضْعِ حمْلِها بعدما كان أمْرُها مُستتِرًا غيرَ مكشوفٍ بينَ النَّاسِ، وقد آنَ أنْ ينكشِفَ؛ فيُجابُ السَّامعُ بأنَّها تمنَّتِ الموتَ قبْلَ ذلك، فهي في حالةٍ من الحُزنِ ترى أنَّ الموتَ أهونُ عليها من الوُقوعِ فيها .
3- قوله تعالى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
- قولُه: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا على القولِ بأنَّ قائلَ هذا هو عيسى عليه السَّلامُ؛ فهذا إرهاصٌ لعيسى، وكرامةٌ لأُمِّه عليهما السَّلامُ، وقُيِّدَ بقولِه: مِنْ تَحْتِهَا لتحقيقِ ذلك، ولإفادةِ أنَّه ناداها عندَ وضْعِه قبْلَ أنْ ترفَعَه؛ مُبادرةً للتَّسليةِ والبشارةِ، وتَصويرًا لتلك الحالةِ الَّتي هي حالةُ تَمامِ اتِّصالِ الصَّبيِّ بأُمِّه .
- قولُه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا جُملةٌ خبريَّةٌ مُرادٌ بها التَّعليلُ لانتفاءِ الحزْنِ المفهومِ من النَّهيِ عنه في قوله: أَلَّا تَحْزَنِي، أي: أنَّ حالتَك حالةٌ جديرةٌ بالمسرَّةِ دونَ الحزنِ؛ لِما فيها من الكرامةِ الإلهيَّةِ . والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِها؛ لتَشريفِها، وتأكيدِ التَّعليلِ، وتكميلِ التَّسليةِ .
4- قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
- الباءُ في قولِه: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ صلةٌ للتَّأكيدِ، كما في قولِه تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... [البقرة: 195] ، أو لإلصاقِ الفعْلِ بمدخولِها، أي: افْعَلي الهزَّ بجذْعِها، أو هُزِّي الثَّمرةَ بهَزِّه .
- قولُه: رُطَبًا جَنِيًّا هو كِنايةٌ عن حَدثانِ سُقوطِه، أي: عن طَراوتِه، ولم يكُنْ من الرُّطبِ المخبوءِ من قبْلُ؛ لأنَّ الرُّطبَ متى كان أقرَبَ عهدًا بنخلتِه كان أطيبَ طعمًا .
5- قوله تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا
- قولُه: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، جُملةُ فَكُلِي وما بعْدَها فذلكةٌ للجُمَلِ الَّتي قبْلَها مِن قولِه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، أي: فأنتِ في بحبوحةِ عيشٍ .
- وقدَّم الأكلَ على الشُّربِ؛ لأنَّ احتياجَ النُّفَساءِ إلى أكلِ الرُّطَبِ أشَدُّ مِن احتياجِها إلى شُربِ الماءِ؛ لِكَثرةِ ما سال منها مِنَ الدِّماءِ . أو لأنَّه لَمَّا كانت العادةُ تقديمَ الأكلِ على الشُّربِ، تقدَّمَ في الآيةِ ، وهذا هو المُطَّرِدُ في القُرآنِ الكريمِ في جَميعِ المواضِعِ.
- قولُه: وَقَرِّي عَيْنًا قُرَّةُ العينِ: كنايةٌ عن السُّرورِ، وهي كنايةٌ ناشئةٌ عن ضدِّها، وهو سُخْنةُ العينِ الَّتي هي أثرُ البكاءِ اللَّازمِ للأسفِ والحزنِ، فلمَّا كُنِّي عن الحزنِ بسُخْنةِ العينِ؛ أتْبَعوا ذلك بأنْ كنَّوْا عن السُّرورِ بضِدِّ هذه الكنايةِ فقالوا: قُرَّةُ عينٍ، وأقرَّ اللَّهُ عينَه، وقُرَّةُ العينِ تشمَلُ هناءَ العيشِ، وتشمَلُ الأُنسَ بالطِّفلِ المولودِ. وفي كونِه قُرَّةَ عينٍ كِنايةٌ عن ضمانِ سَلامتِه، ونَباهةِ شأْنِه .
- قولُه: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا قيل: إنَّه مُرتَّبٌ على مُقدَّرٍ بينه وبينَ الشَّرطِ، تقديرُه: فإمَّا تريِنَّ مِن البشرِ أحدًا، فيسأَلْكِ الكلامَ، فقولي: إنِّي نذرْتُ... إلخ، وبهذا سقَطَ ما قيلَ مِن أنَّ قولَها: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا كلامٌ بعدَ النَّذرِ؛ إذ هو بهذا التَّقديرِ مِن تَمامِ النَّذرِ لا بعْدَه . وقيل: المعنى: فانْذِري صومًا، وإنْ لقيتِ من البشرِ أحدًا، فقولي: إنِّي نذرْتُ صومًا، فحُذِفَتْ الجُملةُ للقرينةِ .
- قولُه: إِنْسِيًّا نِكرةٌ في سياقِ النَّفيِ؛ فيُفيدُ العُمومَ، أي: لنْ أُكلِّمَ أحدًا، وعُدِلَ عن (أحدٍ) إلى إِنْسِيًّا؛ لرعايةِ فاصلةِ الياءِ .