موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (90-92)

ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

بَغْيًا: أي: ظلمًا، مصدرُ بَغَى يَبْغي إذا ظلَم، أو: هو طلبُ الاستعلاءِ بغيرِ حقٍّ، وأصلُ البغي: الفسادُ، وتجاوزُ الحدِّ، يقال: بَغَى الجرحُ: إذا ترامَى إلى فسادٍ .
وَعَدْوًا: أي: اعتداءً، وأصلُ (عدو): يدُلُّ على تجاوُزٍ في الشَّيءِ، وتقَدُّمٍ لِما ينبغي أن يُقتصَرَ عليه .

المعنى الإجمالي :

يقولُ الله تعالى: وقطَعْنا ببني إسرائيلَ البَحرَ حتى جاوَزوه، فتَبِعَهم فرعونُ وجُنودُه ظلمًا وعُدوانًا، فسَلَكوا البحرَ وراءَهم، حتى إذا أحاط بفرعونَ الغَرَقُ قال: آمنتُ أنَّه لا إلهَ إلَّا الذي آمنتْ به بنو إسرائيلَ، وأنا من الموحِّدينَ المُستَسلِمينَ بالانقيادِ والطَّاعة، فقال اللهُ له: آلآنَ تؤمِنُ يا فرعونُ، وقد نزل بك الموتُ، تقرُّ لله بالعبوديَّةِ، وقد عصيتَه قبلَ نُزولِ عَذابِه بك، وكنتَ مِن المفسدينَ الصَّادِّينَ عن سبيلِه؟! فاليومَ نجعَلُك على مرتفَعٍ مِن الأرضِ بجَسَدِك، ينظُرُ إليك مَن كذَّب بهلاكِك؛ لتكونَ لِمَن بَعدَك من النَّاسِ عِبرةً يَعتَبِرونَ بك؛ فإنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ عن حُجَجِنا وأدلَّتِنا لَغافِلونَ، لا يتفَكَّرونَ فيها ولا يعتَبِرونَ.

تفسير الآيات:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لمَّا أمَر بالتأنِّي الذي هو نتيجةُ العلمِ، عطَف على ذلك الإخبارَ بالاستجابةِ ، فقال تعالى:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ.
أي: وقَطَعنا ببني إسرائيلَ البَحرَ عندما خرجوا من مِصرَ مع نبيِّهم موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا.
أي: فتَبِعَ بني إسرائيلَ فرعونُ وجنودُه؛ استعلاءً عليهم واعتداءً .
حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أي: حتى إذا أحاط الغَرَقُ بفِرعونَ قال عند الموتِ: أقررتُ بأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ الذي آمَنَ به قومُ موسى، وأنا من الموحِّدينَ لله، المُستَسلِمينَ المُنقادينَ له بالطَّاعةِ .
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91).
أي: قال اللهُ لِفَرعونَ: آلآنَ تتوبُ، وتؤمِنُ باللهِ، وتستسلِمُ له بعد فواتِ الأوانِ، وقد عصيتَه قبلَ نزولِ عذابِه، وكنتَ مِن المُفسِدينَ في الأرضِ الذين ظَلَموا العبادَ، وأضَلُّوهم، وصَدُّوهم عن سبيلِ الله ؟!
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92).
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ.
أي: قال اللهُ لِفَرعونَ: فاليومَ نجعَلُ جَسَدَك وما تقلَّدتَه مِن دروعِ الحربِ بعدَ غَرَقِك، على مكانٍ مرتَفعٍ مِن الأرضِ، فيَتبَيَّن للنَّاسِ هلاكُك .
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.
أي: لِتَكونَ- يا فرعونُ- لِمَن بَعدَك من النَّاسِ عِبرةً بعد إيقانِهم بهلاكِك وقدرةِ الله على كلِّ ذلك، فيَنزَجِروا عن الكُفرِ باللهِ ومَعصيتِه، ويَرَوا عاقِبةَ الطُّغيانِ، ويخافوا غضَبَ اللهِ .
وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ.
أي: وإنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ مُعرِضونَ عن تأمُّلِ آياتِنا، وعن التفكُّرِ فيها، والاعتبارِ بها .

الفوائد التربوية :

1- التَّوبةُ بعد المُعاينةِ لا تنفَعُ؛ قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ؛ إذ إنَّ إيمانَ فِرعونَ في تلك اللَّحظةِ كان إيمانًا مُشاهَدًا غيرَ نافعٍ، فالإيمانُ الذي ينفَعُ إنَّما هو الإيمانُ بالغَيبِ .
2- قَولُ الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الآيةُ تفيدُ أنَّه لم يَسَعْه إلَّا الإيمانُ باللهِ؛ لأنَّه قَهَرتْه أدلَّةُ الإيمانِ، وهذه مُستفادةٌ مِن رَبطِ جُملة إيمانِه بالظَّرفِ في قوله: إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ وهذه مَنقبةٌ للإيمانِ، وأنَّ الحَقَّ يَغلِبُ الباطِلَ في النِّهايةِ .
3- قَولُ الله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ فيه ذمٌّ للغَفلةِ وعدمِ التفَكُّرِ في أسبابِ الحَوادِثِ وعَواقِبها، واستبانةِ سُنَنِ الله فيها للاعتبارِ والاتِّعاظِ بها .
4- قَولُ الله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ جملةُ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ تذييلٌ لِمَوعظةِ المُشرِكينَ، والمرادُ منه: دَفعُ توهُّمِ النَّقصِ عن آياتِ اللهِ عندما يُحرَمُ كَثيرٌ مِن النَّاسِ الاهتداءَ بها، فهي في ذاتِها دلائِلُ هُدًى سواءٌ انتفَعَ بها بعضُ النَّاسِ أم لم ينتَفِعوا، فالتَّقصيرُ منهم .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ... الإدراكُ: اللَّحاقُ وانتهاءُ السَّيرِ، وهذا التَّعبيرُ يُؤْذِنُ بأنَّ الغرَقَ دَنا مِنه تَدريجيًّا بهَولِ البحرِ ومُصارَعتِه الموجَ، وهو يَأمُلُ النَّجاةَ منه، وأنَّه لم يُظهِرِ الإيمانَ حتَّى أَيِسَ مِن النَّجاةِ، وأيقنَ بالموتِ، وذلك لِتَصلُّبِه في الكفرِ .
2- قولُه: قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لم يَقُلْ فرعونُ كما قاله السَّحرةُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ بل عبَّر عنه تعالى بالموصولِ، وجعَل صِلتَه إيمانَ بَني إسرائيلَ به تعالى؛ للإشعارِ برُجوعِه عن الاستعصاءِ، وباتِّباعِه لِمَن كان يَستتبِعُهم؛ طمعًا في القَبولِ، والانتظامِ معَهم في زُمرةِ النَّجاةِ ؛ وقد كرَّر المخذولُ المعنى الواحدَ ثلاثَ مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ؛ حِرصًا على القَبولِ، ثمَّ لم يُقبَلْ منه حيث أخطَأ وقْتَه، وقاله حين لم يبقَ له اختيارٌ قطُّ، وكانت المرَّةُ الواحدةُ كافيةً في حالِ الاختيارِ، وعِندَ بقاءِ التَّكليفِ .
3- في قَولِه تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ردٌّ على مَن زعم إيمانَ فِرعونَ؛ وذلك لأنَّ الاستفهامَ هنا هو استِفهامُ إنكارٍ وذَمٍّ، ولو كان إيمانُه صَحيحًا مقبولًا عند الغَرَق، لَمَا قيلَ له ذلك .
4- قوله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً في تعليلِ تنجِيَتِه بما ذُكِر إيذانٌ بأنَّها ليسَت لإعزازِه أو لفائدةٍ أُخرَى عائدةٍ إليه، بل لِكَمالِ الاستهانةِ به، وتَفْضيحِه على رُؤوسِ الأشهادِ، وزيادةِ تفظيعِ حالِه؛ كمن يُقتَلُ ثمَّ يُجرُّ جسَدُه في الأسواقِ، أو يُدارُ برأسِه في البلادِ .
5- في قَولِه تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ردٌّ على مَن زعم إيمانَ فرعونَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جعَلَه عبرةً وعلامةً لِمَن يكونُ بعده مِن الأمَمِ؛ ليَنظُروا عاقِبةَ مَن كفَرَ باللهِ تعالى؛ ولهذا ذَكَرَ اللهُ تعالى الاعتبارَ بقصَّةِ فِرعونَ وقَومِه في غيرِ موضِعٍ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
قوله: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فيه إيثارُ التَّعبيرِ بالجملةِ الاسميَّةِ؛ لادِّعاءِ الدَّوامِ والاستمرارِ .
2- قوله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
قولُه: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ: الاستفهامُ إنكاريٌّ، والإنكارُ مُؤذِنٌ بأنَّ الوقتَ الَّذي عُلِّق به الإنكارُ ليس وقتًا يَنفَعُ فيه الإيمانُ؛ لأنَّ الاستِفْهامَ الإنكاريَّ في قوَّةِ النَّفيِ .
وجملةُ: وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ حالٌ مِن فاعلِ الفعلِ المقدَّرِ؛ جيءَ به لِتَشديدِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ على تأخيرِ الإيمانِ إلى هذا الآنِ ، وهي مؤكِّدةٌ لِمَا في الاستفهامِ آلآنَ مِن معنى الإنكارِ؛ فإنَّ إيمانَه في ذلك الحينِ مُنكَرٌ، ويَزيدُه نُكْرًا أنَّ صاحِبَه كان عاصيًا للهِ، ومفسِدًا للدِّينِ الَّذي أرسَلَه اللهُ إليه، ومُفسِدًا في الأرضِ بالجَورِ والظُّلمِ، والتَّمويهِ بالسِّحرِ .
3- قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
قولُه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ اعتِراضٌ تذييليٌّ، جيءَ به عندَ الحكايةِ؛ تَقريرًا لِفَحوَى الكلامِ المحكيِّ .