المَبحَثُ الخامِسُ: قاعِدةُ: الخَطَأُ لا يُستَدامُ ولَكِن يُرجَعُ عنه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الخَطَأُ لا يُستَدامُ ولَكِن يُرجَعُ عنه"
[1575] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 943). . ويُعَبَّرُ عنها بصيغةِ: "ما يَجوزُ التَّمادي على الخَطَأِ"
[1576] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (3/ 278). ، و"لا سَبيلَ إلى الاستِمرارِ على الخَطَأِ"
[1577] يُنظر: ((فتح العزيز)) للرافعي (3/ 239)، ((المهمات)) للإسنوي (2/ 495). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المَرءَ إذا تَيَقَّنَ الخَطَأَ فيَلزَمُه الرُّجوعُ عنه، ولا يَصِحُّ الاستِدامةُ عليه؛ فبِمُجَرَّدِ تَأكُّدِه مِنَ الخَطَأِ فلا فائِدةَ في الاستِمرارِ فيه ولا والدَّوامِ عليه، وهذا أمرٌ مُسَلَّمٌ عِندَ العُقَلاءِ، فلا يُتَخَيَّلُ أن يَكونَ التَّمادي في الخَطَأِ بَعدَ ظُهورِه مَقبولًا، بَل يَجِبُ تَركُه وتَلافي آثارِه ما أمكَنَ، والرُّجوعُ إلى الصَّوابِ
[1578] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (6/32)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (2/100،99)، ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 942)، ((فتح العزيز)) للرافعي (3/239). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: (بَينَما النَّاسُ في صَلاةِ الصُّبحِ بقُباءٍ إذ جاءَهم آتٍ، فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُنزِلَ عليه اللَّيلةَ، وقد أُمِرَ أن يَستَقبِلَ الكَعبةَ فاستَقبِلوها، وكانت وُجوهُهم إلى الشَّامِ فاستَداروا إلى القِبلةِ)
[1579] أخرجه البخاري (4494) واللفظ له، ومسلم (526). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ أهلَ مَسجِدِ قُباءٍ لمَّا افتَتَحوا الصَّلاةَ إلى بَيتِ المَقدِسِ، ثُمَّ بَلَغَهم نِداءُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ القِبلةَ قد تَحَوَّلَت، استَداروا إلى الكَعبةِ، وصَحَّت صَلاتُهم؛ فدَلَّ على أنَّ الاستِمرارَ على الخَطَأِ بَعدَ تَبَيُّنِه لا يَصِحُّ
[1580] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (1/215)، ((مواهب الجليل)) للجكني الشنقيطي (1/157). .
2- عن أبي عُمَيرِ بنِ أنَسٍ، قال: قال: حَدَّثَني عُمومَتي مِنَ الأنصارِ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالوا: (أُغميَ علينا هلالُ شَوَّالٍ، فأصبَحنا صيامًا، فجاءَ رَكبٌ مِن آخِرِ النَّهارِ، فشَهِدوا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم رَأوا الهلالَ بالأمسِ، فأمَرَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُفطِروا، وأن يَخرُجوا إلى عيدِهم مِنَ الغَدِ)
[1581] أخرجه أبو داود (1157)، والنسائي (1557) مُختَصَرًا، وابن ماجه (1653) واللَّفظُ له صَحَّحه ابنُ المنذر كما في ((التخليص الحبير)) لابن حجر (2/620)، والخطابي في ((معالم السنن)) (1/218)، وابن حزم في ((المحلى)) (5/92)، والنووي في ((المجموع)) (5/27)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/95)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (1/291). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَهم بالفِطرِ لمَّا شَهدَ الرَّكبُ برُؤيةِ الهلالِ؛ إذ تَبَيَّنَ بشَهادَتِهم خَطَأُ ما كانوا يَعتَقِدونَه مِن أنَّ هذا اليَومَ مِن رَمَضانَ، فِلم يستديموا على الخَطَأِ، بَل رَجَعوا عنه وأفطَروا
[1582] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (8/462)، ((شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك)) (2/230). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو أنَّ قَومًا مِن أهلِ الحَربِ بَلَغَهمُ الإسلامُ ولَم يَدروا كَيف هو، فغَزاهمُ المُسلِمونَ فرَغِبوا في أن يُسلِموا، فأبى الأميرُ الذي على المُسلِمينَ أن يُجيبَهم إلى ذلك حتَّى قاتَلَهم وظَهَرَ عليهم، فإنَّه يَنبَغي أن يُعرَضَ عليهمُ الإسلامَ عِندَ الحَنَفيَّةِ، فإذا أسلَموا خَلَّى سَبيلَهم وسَلَّمَ لهم أموالَهم وذَراريَّهم وأراضيَهم؛ لأنَّ القِتالَ شُرِعَ لأجلِ الإسلامِ، على ما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ )) [1583] أخرجه البخاري (2946)، ومسلم (21) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وهؤلاء لمَّا سَألوه الإسلامَ فقد رَغِبوا فيه، فكان يَجِبُ على الإمامِ أن يَصِفَ لهمُ الإسلامَ قَبلَ القِتالِ حتَّى يُسلِموا، فإذا قاتَلَهم ولَم يَصِفْ لهمُ الإسلامَ فقد أخطَأَ فيه، فعليه أن يَرجِعَ عن خَطَئِه فيَعرِضَ عليهمُ الإسلامَ بَعدَ الظُّهورِ عليهم، فإن أسلَموا صاروا كَأنَّهم أسلَموا قَبلَ الظُّهورِ عليهم، فبَقُوا أحرارًا كَما كانوا
[1584] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 942)، ((الجامع لمسائل المدونة)) لابن يونس (6/49 -55). .
2- إذا تَبَيَّنَ للقاضي الخَطَأُ في قَضائِه بأن خالَف قَضاؤُه النَّصَّ أوِ الإجماعَ، فعليه أن يَنقُضَه، ولا يَنبَغي أن يَمنَعَه الاستِحياءُ مِنَ النَّاسِ مِن ذلك؛ فإنَّ مُراقَبةَ اللهِ تعالى في ذلك خَيرٌ له، وهذا ليسَ في القاضي خاصَّةً، بَل هو في كُلِّ مَن يُبَيِّنُ لغَيرِه شَيئًا مِن أُمورِ الدِّينِ، الواعِظُ والمُفتي والقاضي في ذلك سَواءٌ، ولَكِنَّ ذلك في حَقِّ القاضي أوجَبُ؛ لأنَّ القَضاءَ مُلزِمٌ، فلَو أنَّه حَكَم بطَلاقِ امرَأةِ رَجُلٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ له خَطَأُ حُكمِه فإنَّه يَرُدُّ ذلك إلى المَحكومِ عليه؛ لأنَّه تَبَيَّنَ له أنَّه انتَزَعَ مِن يَدِه بغَيرِ حَقٍّ
[1585] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/62)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (18/476)، ((الموافقات)) للشاطبي (4/55)، ((شرح أدب القاضي)) للحسام الشهيد (ص: 325). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.1- القاعِدةُ مُكمِلةٌ للقاعِدةِ الأُخرى "لا عِبرةَ بالظَّنِّ البَيِّنِ خَطَؤُه":
فقاعِدةُ الظَّنِّ تَعني أنَّ ما بُنيَ على ظَنٍّ خَطَأٍ مُلغًى لا يَتَرَتَّبُ عليه أيُّ أثَرٍ شَرعيٍّ، بَينَما قاعِدةُ "الخَطَأُ لا يُستَدامُ ولَكِن يُرجَعُ عنه" تُبَيِّنُ أنَّ الخَطَأَ في أمرٍ ما يوجِبُ تَركَه والرُّجوعَ عنه إلى وَجهِ الصَّوابِ فيه، فعلى ذلك تَكونُ كُلُّ واحِدةٍ مِنَ القاعِدَتَينِ مُكملةً للأُخرى
[1586] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 357)، ((معلمة زايد)) ((8/ 570). .
2- القاعِدةُ مُقَيَّدةٌ في بابِ العِبادةِ بأن يَكونَ الخَطَأُ في أمرٍ يُشتَرَطُ فيه تَعيينُ الشَّيءِ:
فإن كان فيما لا يُشتَرَطُ فيه تَعيينٌ فإنَّ الخَطَأَ فيه لا يَضُرُّ، كَما نَطَقَت بذلك القاعِدةُ الأُخرى: "الخَطَأُ فيما لا يُشتَرَطُ فيه التَّعيينُ لا يَضُرُّ"، كَتَعيينِ مَكانِ الصَّلاةِ وزَمانِها وعَدَدِ الرَّكَعاتِ، فلَو عُيِّنَ عَدَدُ رَكَعاتٍ ثَلاثًا أو خَمسًا صَحَّ؛ لأنَّ التَّعيينَ ليسَ بشَرطٍ، فالخَطَأُ فيه لا يَضُرُّه
[1587] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 29)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 15). .