موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: ما أوجَبَ اللهُ ابتِداءً أَولى بالتَّقديمِ مِمَّا أوجَبَه بناءً على وُجودِ سَبَبٍ مِنَ المُكَلَّفِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما أوجَبَ اللهُ ابتِداءً أولى بالتَّقديمِ مِمَّا أوجَبَه بناءً على وُجودِ سَبَبٍ مِنَ المُكَلَّفِ" [1568] يُنظر: ((التحرير شرح الجامع الكبير)) للحصيري (5/34) نقلًا عن ((القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير)) لعلي الندوي (ص: 493). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الأصلُ في الواجِباتِ وُجوبُ امتِثالِها جَميعًا، فالواجِبُ لا يَجوزُ تَركُه، إلَّا أنَّه قد تَتَعارَضُ الواجِباتُ بحَيثُ يَتَعَذَّرُ على المُكَلَّفِ الإتيانُ بجَميعِها ولا يُمكِنُه فِعلُ أحَدِ الواجِبَينِ إلَّا بتَركِ الآخَرِ، فحينَئِذٍ يلجَأُ إلى التَّرجيحِ بَينَها، فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّه يُقَدَّمُ ما أوجَبَه اللهُ تعالى ابتِداءً بدونِ حُصولِ سَبَبٍ مِنَ المُكَلَّفِ -كالصَّلاةِ والصَّومِ والحَجِّ- على الواجِباتِ التي تَجِبُ بسَبَبٍ مِن جِهةِ المُكَلَّفِ، والقاعِدةُ ليسَت على إطلاقِها، بَل إنَّ ما وجَبَ بسَبَبٍ مِن جِهةِ المُكَلَّفِ -كالدَّينِ ونَحوِه- قد يُقدَّمُ لتَعَلُّقِه بحُقوقِ الآخَرينَ، فيُقدَّمُ على حَقِّ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أحيانًا، وقدِ انفرَدَ بذِكرِ هذه القاعِدةِ الحصيريُّ مِنَ الحَنَفيَّةِ، وتُعتَبَرُ مِن طُرُقِ التَّرجيحِ بَينَ الواجِباتِ، وهيَ مُكملةٌ لقاعِدةِ (البَيانُ يُعتَبَرُ بالِابتِداءِ إن صَحَّ الابتِداءُ وإلَّا فلا) [1569] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (9/53). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ والمَعقولِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عُمومُ حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في قِصَّةِ بَريرةَ، وفيه: ((قَضاءُ اللَّهِ أحَقُّ، وشَرطُ اللَّهِ أوثَقُ)) [1570] أخرجه البخاري (2168)، ولفظُه: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: جاءَتني بَريرةُ فقالت: كاتَبتُ أهلي على تِسعِ أواقٍ، في كُلِّ عامٍ وَقيَّةٌ، فأعينيني، فقُلتُ: إنْ أحَبَّ أهلُكِ أن أعُدَّها لهم، ويَكونَ ولاؤُكِ لي فعَلتُ، فذَهَبَت بَريرةُ إلى أهلِها، فقالت لهم فأبَوا ذلك عليها، فجاءَت مِن عِندِهم ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالِسٌ، فقالت: إنِّي قد عَرَضتُ ذلك عليهم فأبَوا إلَّا أن يَكونَ الولاءُ لهم، فسَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرَت عائِشةُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: خُذيها واشتَرِطي لهمُ الولاءَ، فإنَّما الولاءُ لمَن أعتَقَ، ففعَلَت عائِشةُ، ثُمَّ قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّاسِ، فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ، ما بالُ رِجالٍ يَشتَرِطونَ شُروطًا ليسَت في كِتابِ اللهِ، ما كان مِن شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ فهو باطِلٌ، وإن كان مِئةَ شَرطٍ، قَضاءُ اللهِ أحَقُّ، وشَرطُ اللهِ أوثَقُ، وإنَّما الولاءُ لمَن أعتَقَ.
- وعُمومُ حَديثِ ((هَل عليَّ غَيرُها؟ قال: لا، إلَّا أن تَطَّوَّعَ )) [1571] لفظُه: عن طَلحةَ بنِ عُبَيدِ اللَّهِ يَقولُ: ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا هو يَسألُه عنِ الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خَمسُ صَلَواتٍ في اليَومِ واللَّيلةِ، فقال: هَل عليَّ غَيرُها؟ قال: لا، إلَّا أن تَطَّوَّعَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وصيامُ شَهرِ رَمَضانَ، قال: هَل عليَّ غَيرُه؟ قال: لا، إلَّا أن تَطَّوَّعَ، قال: وذَكَرَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الزَّكاةَ، قال: هَل عليَّ غَيرُها؟ قال: لا، إلَّا أن تَطَّوَّعَ ، فأدبَرَ الرَّجُلُ وهو يَقولُ: واللهِ لا أزيدُ على هذا ولا أنقُصُ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أفلَحَ إن صَدَقَ)). أخرجه البخاري (46) واللَّفظُ له، ومسلم (11). ؛ ففيه أنَّ ما أوجَبَه اللهُ تعالى أولى مُطلَقًا، ثُمَّ يَليه بَعدَ ذلك ما ألزَمَ المُكَلَّفُ نَفسَه بفِعلِه.
2- مِنَ القَواعِدِ:
قاعِدةُ تَزاحُمِ المَصالِحِ، ويَشهَدُ لها الحَديثُ القُدسيُّ الذي رَواه أبو هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه: ((وما تَقَرَّبَ إليَّ عَبدي بشَيءٍ أحَبَّ إليَّ مِمَّا افتَرَضتُ عليه، وما يَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّه )) [1572] أخرجه البخاري (6502). .
3- مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ ما أوجَبَه اللهُ تعالى فهو مَقصودٌ أصالةً، وأرادَ اللهُ وجُودَه في عُمومِ المُكَلَّفينَ، أمَّا ما وجَبَ سَبَبُه مِنَ المُكَلَّفِ خاصَّةً، فهو أقَلُّ مَرتَبةً مِنَ التَّشريعِ المَقصودِ للمُكَلَّفينَ.
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- مَن نَذَرَ أن يَحُجَّ ولَم يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ الإسلامِ فأحرَمَ عنِ النَّذرِ، وقَعَت عنِ المَفروضِ، وهَل تُجزِئُه عنِ النَّذرِ المَنصوصِ؟ فعن أحمَدَ: أنَّ المَنذورةَ لا تَسقُطُ عنه؛ لأنَّها حَجَّةٌ واحِدةٌ، فلا تُجزِئُ عن حَجَّتَينِ، كَما لو نَذَرَ حَجَّتَينِ فحَجَّ واحِدةً، وفي رِوايةٍ أُخرى: يُحتَمَلُ أن يُجزِئَ ذلك؛ لأنَّه قد أتى بالحَجَّةِ ناويًا بها نَذرَه، فأجزَأَته، كَما لو كان مِمَّن أَسقَطَ فَرضَ الحَجِّ عن نَفسِه، وقد نَقَلَ أبو طالِبٍ عن أحمَدَ فيمَن نَذَرَ أن يَحُجَّ، وعليه حَجَّةٌ مَفروضةٌ، فأحرَمَ عنِ النَّذرِ: وقَعَت عنِ المَفروضِ، ولا يَجِبُ عليه شَيءٌ آخَرُ [1573] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/44)، ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (4/176). .
2- لو نَذَرَ صَومَ اليَومِ الذي يَقدَمُ فيه فلانٌ مِنَ النَّاسِ، فقَدِمَ في يَومٍ مِن رَمَضانَ، فإنَّه يَقَعُ عنِ الفريضةِ، ولَو نَواه عنِ الفرضِ والنَّذرِ مَعًا يَصِحُّ في رِوايةٍ عِندَ الحَنابِلةِ [1574] يُنظر: ((التذكرة في الفقهـ)) لابن عقيل (ص: 354)، ((المغني)) لابن قدامة (5/44)، ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (4/177). .

انظر أيضا: