المَطلَبُ الأوَّلُ: قاعِدةُ: ما يَمتَدُّ فلِدَوامِه حُكمُ الابتِداءِ وإلَّا فلا
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما يَمتَدُّ فلِدَوامِه حُكمُ الابتِداءِ وإلَّا فلا"
[1457] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) (ص: 152)، ((البحر الرائق)) (3/750) كلاهما لابن نجيم. ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بصيغةِ: "ما لا يَمتَدُّ مِنَ الأفعالِ لا يُعطى لدَوامِه حُكمُ الابتِداءِ، وما يَمتَدُّ مِنَ الأفعالِ يُعطى لدَوامِه حُكمُ الابتِداءِ"
[1458] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) (4/317). ، وبصيغةِ: "للمُداومةِ فيما له امتِدادٌ حُكمُ الابتِداءِ"
[1459] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/153). ، و"كُلُّ فِعلٍ يَقبَلُ الامتِدادَ يُعطى لبَقائِه حُكمَ الابتِداءِ"
[1460] يُنظر: ((البناية)) للبابرتي (5/52). ، و "يُعطى للدَّوامِ حُكمُ الابتِداءِ فيما يَمتَدُّ"
[1461] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (4/329). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. الأفعالُ التي تَقَعُ مِنَ الإنسانِ مِنها ما يَمتَدُّ، كالقيامِ والسُّكنى واللُّبسِ والرُّكوبِ والعُقودِ وغَيرِها، ولأجلِ ذلك يُضرَبُ لها مُدَّةٌ، فيُقالُ: رَكِبتُ يَومًا ولَبِستُ يَومًا، وقِسمٌ آخَرُ لا يَمتَدُّ، كالدُّخولِ والخُروجِ ونَحوِهما؛ فلِهذا لا تُضرَبُ لها مُدَّةٌ، فلا يُقالُ: دَخَلتُ يَومًا في الدَّارِ؛ إذ لا يَستَقيمُ أن يُقالَ للدَّاخِلِ في الدَّارِ: ادخُلْ، ولا يَستَقيمُ أن يُقالَ للخارِجِ مِنها: اخرُجْ مِنها. وتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الأفعالَ التي تَمتَدُّ يُعتَبَرُ الدَّوامُ عليها بمَثابةِ إنشائِها، أمَّا الأفعالُ التي لا تَمتَدُّ فلا يُعتَبَرُ الدَّوامُ عليها بمَثابةِ إنشائِها، والفارِقُ بَينَ المُمتَدِّ وغَيرِ المُمتَدِّ مِنَ الأفعالِ صِحَّةُ قَرارِ المُدَّةِ وعَدَمُ صِحَّتِه، كَما سَبَقَ بَيانُه، فكُلُّ فِعلٍ يَصِحُّ قَرارُ المُدَّةِ به فهو مِمَّا يَمتَدُّ، وكُلُّ فِعلٍ لا يَصحُّ قَرارُ المُدَّةِ به فهو مِمَّا لا يَمتَدُّ
[1462] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (4/317)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/153) و (3/119)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (2/132)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/2538). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ القُرآنِ قَولُ اللهِ تعالى:
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الجُلوسَ لمَّا كان مِمَّا يَمتَدُّ مَنعَه الشَّارِعُ بدايةً وامتِدادًا، فجَعَلَ أمَدَ جَوازِه تَركَهمُ الخَوضَ
[1463] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/119)، ((لطائف الإشارات)) للقشيري (1/481)، ((الكشاف)) للزمخشري (1/578). .
2- مِنَ السُّنَّةِ: عن بُرَيدةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَليٍّ:
((يا عَليُّ، لا تُتبِعِ النَّظرةَ النَّظرةَ؛ فإنَّ لك الأولى ولَيسَت لك الآخِرةُ )) [1464] أخرجه أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، وأحمد (22991). صَحَّحه على شرط مسلم الحاكم في ((المستدرك)) (2788)، وحَسَّنَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (2149)، وحَسَّنَه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2149)، وقال الترمذي: حَسَنٌ غَريبٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ النَّظرةَ لمَّا كانت مِمَّا تَمتَدُّ مَنع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تَتَبُّعِ النَّظرةِ الأولى التي وقَعَت سَهوًا للنَّظرةِ الثَّانيةِ التي تَقَعُ عَمدًا، فلَيسَ للإنسانِ أن يُديمَ النَّظرةَ أو يُعيدَها أو يَبتَدِئَ بها؛ فالنَّظَرُ مِنَ الأفعالِ المُمتَدَّةِ، ولمَّا كان ابتِداؤُه بقَصدٍ مَنهيًّا عنه كان لدَوامِه حُكمُ الابتِداءِ
[1465] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (6/168)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/119)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/24). .
3- مِنَ المَعقولِ: وهو أنَّ التَّصَرُّفَ إذا كان مُمتَدًّا كان المُتَصَرِّفُ في كُلِّ لحظةٍ مِن لحَظاتِ دَوامِ التَّصَرُّفِ مُعَرَّضًا للنَّقضِ والفسخِ، فلمَّا لم يُفسَخْ جُعِلَ امتِناعُه عنِ الفسخِ عِندَ إمكانِه بمَنزِلةِ ابتِداءِ تَصَرُّفٍ آخَرَ مِن جِنسِه، وأمَّا إذا كان التَّصَرُّفُ لا يَمتَدُّ فلا يَتَأتَّى هذا المَعنى؛ لأنَّ المُتَصَرِّفَ لا يَتَمَكَّنُ في كُلِّ لحظةٍ مِنَ الفسخِ والعَزلِ، فلا يُجعَلُ امتِناعُه عنِ العَزلِ بمَنزِلةِ الابتِداءِ والإنشاءِ لذلك الفِعلِ
[1466] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (8/141). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. يَتَخَرَّجُ على هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا عَلَّقَ طَلاقَ زَوجتِه بوصفٍ قائِمٍ بها، كالحَيضِ أوِ المَرَضِ، يَكونُ ذلك على حَيضٍ أو مَرَضٍ في المُستَقبَلِ عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ الحَيضَ والمَرَضَ لا يَمتَدَّانِ، وما لا يَمتَدُّ مِنَ الأفعالِ لا يُعطى لدَوامِه حُكمُ الابتِداءِ، وإذا قال للصَّحيحةِ: إن صَحَحتِ فأنتِ طالِقٌ، يَقَعُ الطَّلاقُ؛ لأنَّ الصِّحَّةَ أمرٌ يَمتَدُّ، ولِلدَّوامِ حُكمُ الابتِداءِ، فيَحنَثُ للحالِ، كَما لو قال للقائِمِ: إذا قُمتَ، وللقاعِدِ: إذا قَعَدتَ، وللبَصيرِ: إذا أبصَرتَ، يَحنَثُ؛ لأنَّ للدَّوامِ حُكمَ الابتِداءِ
[1467] يُنظر: ((عيون المسائل)) للسمرقندي (ص: 110)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (2/132)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (3/263). .
2- لو سَكَتَ مَن حَلَف بأن لا يُنزِلَ فلانًا في دارِه، وهو نازِلٌ الآنَ في دارِه، ولَم يَنتَقِلِ الرَّجُلُ مَعَ تَمَكُّنِه مِنَ الانتِقالِ، حَنِثَ الحالِفُ؛ لأنَّ النُّزولَ مِمَّا يَمتَدُّ، فلِدَوامِه حُكمُ الابتِداءِ، وسُكوتُه قامَ مَقامَ الفِعلِ، وهو الإنزالُ
[1468] يُنظر: ((رد المحتار)) لابن عابدين (4/482). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش