موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: التَّبَعيَّةُ والأصالةُ لا يَجتَمِعانِ في شَخصٍ واحِدٍ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّبَعيَّةُ والأصالةُ لا يَجتَمِعانِ في شَخصٍ واحِدٍ" [1393] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/292). . واستُعمِلَت بهذا المَعنى المَذكورِ بعِباراتٍ مُختَلِفةٍ [1394] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/122)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/94) و(6/321)، ((العناية)) للبابرتي (6/94). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه إذا كان بَينَ الأصالةِ والتَّبَعيَّةِ مُنافاةٌ؛ حَيثُ إنَّهما مَعنَيانِ مُتَضادَّانِ، أنَّهما لا يَجتَمِعانِ في شَخصٍ واحِدٍ؛ لأنَّ التَّبَعيَّةَ دَليلُ العَجزِ، والأصالةَ دَليلُ القُدرةِ، وبَينَ القُدرةِ والعَجزِ تَضادٌّ وتَنافٍ، فلا يَجتَمِعانِ في شَخصٍ واحِدٍ، كالطُّولِ والقِصَرِ. لكِنْ عِندَ اختِلافِ الحالِ يَجوزُ أن يَكونَ الشَّخصُ الواحِدُ أصلًا في حالةٍ، وتَبَعًا في حالةٍ أُخرى، كالأبِ والِابنِ؛ فإنَّها يَجتَمِعانِ في شَخصٍ واحِدٍ؛ حَيثُ يَكونُ الشَّخصُ أبًا لأولادِه، فهو أصلٌ لهم، وابنًا لأبيه، فهو فرعٌ له وتَبَعٌ، ومَعنى الأصالةِ والتَّبَعيَّةِ يَتَحَقَّقُ فيما بَينَ الآباءِ والأولادِ لأجلِ الجُزئيَّةِ [1395] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (7/127) و(10/122)، ((العناية)) للبابرتي (6/94)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/292)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (5/202). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (الشَّيءُ الواحِدُ لا يَكونُ مَقصودًا وتَبَعًا)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ التَّبَعيَّةَ والأصالةَ مِنَ المَعاني المُتَضادَّةِ، فلا يَجتَمِعانِ في شَخصٍ واحِدٍ؛ لأنَّ الشَّيءَ الواحِدَ لا يَكونُ مَقصودًا وتَبَعًا في آنٍ واحِدٍ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (الشَّيءُ الواحِدُ لا يَكونُ مَقصودًا وتَبَعًا).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا اشتَرى أحَدٌ شَيئًا وشَرَط الخيارَ لشَخصٍ أجنَبيٍّ عن هذه المُعامَلةِ جازَ؛ لأنَّ الحاجةَ قد تَمَسُّ إلى اشتِراطِ الخيارِ للغَيرِ؛ لأنَّ شَرعيَّةَ الخيارِ ثَبَتَت لاستِخلاصِ الرَّأيِ، وقد يَعلَمُ المُشتَري مِن نَفسِه قُصورَ الرَّأيِ والتَّدبيرِ غَيرَ واثِقٍ بها في ذلك، ويَثِقُ بغَيرِه مِمَّن يَعلَمُ حَزمَه وجَودةَ رَأيِه ومَعرِفتَه بالتَّقييمِ وأحوالِ السُّوقِ، فيَشتَرِطُ المُشتَري الخيارَ لهذا الشَّخصِ الثَّالِثِ والخَبيرِ ليَحصُلَ المَقصودُ مِن شَرعيَّةِ الخيارِ، وأجنَبيَّةُ هذا الشَّخصِ عنِ العَقدِ إنَّما تَمنَعُ -إن سَلَّمنا صِحَّةَ مانعيَّتِه- لو أجَزناه أصلًا مُستَقِلًّا، لكِنَّا لم نَعتَبِرْه إلَّا تَبَعًا لثُبوتِ الاشتِراطِ للعاقِدِ [1396] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/320). .
2- ارتِدادُ الصَّبيِّ الذي لم يَبلُغْ ويَعقِلْ: ارتِدادٌ، أي: تَجري عليه أحكامُ المُرتَدِّ عِند أبي حَنيفةَ ومُحَمَّدٍ، ويُجبَرُ على الإسلامِ ولا يُقتَلُ، وإسلامُه إسلامٌ، فلا يَرِثُ أبَوَيه إن كانا كافِرَينِ. وقال أبو يوسُفَ: ارتِدادُه ليسَ بارتِدادٍ، وإسلامُه إسلامٌ.
وقال زُفَرُ والشَّافِعيُّ: ليسَ إسلامُه بإسلامٍ ولا ارتِدادُه بارتِدادٍ، حتَّى يَكونَ ذلك مِنه بَعدَ البُلوغِ، أي: لا تجري عليه أحكامُ المُرتَدِّ قَبلَ البُلوغِ؛ لأنَّه في الإسلامِ تَبَعٌ لأبَوَيه، فلا يُجعَلُ أصلًا مُستَقِلًّا به؛ لأنَّه مولًّى عليه في الإسلامِ، فلا يَكونُ أصلًا له بنَفسِه، أي: يَصِحُّ إسلامُه بطريقِ التَّبَعيَّةِ للأبَوينِ، فلا يَصِحُّ بطَريقِ الأصالةِ؛ للتَّنافي بَينَ صِفةِ الأصليَّةِ والتَّبَعيَّةِ؛ إذِ التَّبَعيَّةُ دَليلُ العَجزِ، والأصالةُ دَليلُ القُدرةِ، وبَينَ القُدرةِ والعَجزِ تَضادٌّ وتَنافٍ [1397] يُنظر: ((مختصر اختلاف العلماء للطحاوي)) للجصاص (3/490)، ((الهداية)) للمرغيناني (2/411)، ((العناية)) للبابرتي (6/94)، ((البناية)) للعيني (7/294)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/94). .

انظر أيضا: