المَطلَبُ الأوَّلُ: قاعِدةُ: الشَّيءُ الواحِدُ لا يَكونُ مَقصودًا وتَبَعًا
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الشَّيءُ الواحِدُ لا يَكونُ مَقصودًا وتَبَعًا"
[1383] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/35). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. تُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ ما كان أصلًا مَتبوعًا لا يَكونُ تَبَعًا في شَيءٍ واحِدٍ وحالةٍ واحِدةٍ؛ لأنَّ بَينَ المَقصودِ والتَّبَعِ مُنافاةً، فلا يُمكِنُ اعتِبارُ الجِهَتَينِ جَميعًا؛ فإنَّ كَونَه أصلًا يَنفي أن يَكونَ تَبَعًا، وكَونَه تَبَعًا يَنفي أن يَكونَ أصلًا؛ لأنَّهما مُتَضادَّانِ، وإنَّما يَمتَنِعُ الجَمعُ بَينَ مَعنى التَّبَعيَّةِ والأصالةِ إذا كان بَينَهما مُضادَّةٌ. لكِن عِندَ اختِلافِ الحالِ يَجوزُ أن يَكونَ الشَّيءُ الواحِدُ أصلًا في حالةٍ، وتَبَعًا في حالةٍ أُخرى، كالأبِ والِابنِ يَجتَمِعانِ في شَخصٍ واحِدٍ؛ حَيثُ يَكونُ الشَّخصُ أبًا لأولادِه، فهو أصلٌ لهم، وابنٌ لأبيه، فهو فرعٌ له وتَبَعٌ
[1384] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/35) و(10/122)، ((الكافي)) للسغناقي (2/822)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/96)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (5/202). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. يُمكِنُ الاستِدلالُ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ، والمَعقولِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ: عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن بَيعِ حَبَلِ الحَبَلةِ )) [1385] أخرجه البخاري (2143) واللفظ له، ومسلم (1514). .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ مِن تَفسيراتِ (حَبَلِ الحَبَلةِ) أن يُباعَ ولَدُ نِتاجِ الدَّابَّةِ، أي: بَيعُ وَلَدِ وَلَدِ النَّاقةِ الحابِلِ في الحالِ، وهذا تَفسيرُ أبي عُبَيدةَ مَعمَرِ بنِ المُثَنَّى، وصاحِبِه أبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سَلامٍ، وآخَرينَ مِن أهلِ اللُّغةِ، وبِه قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ، وإسحاقُ بنُ راهَوَيهِ. والمَنعُ في هذا مِن جِهةِ أنَّه بَيعُ مَعدومٍ ومَجهولٍ، وغَيرُ مَقدورٍ على تَسليمِه، فيَدخُلُ في بُيوعِ الغَرَرِ
[1386] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/358)، ((ذخيرة العقبى)) للأثيوبي (35/122)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (4/251). .
فقد نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ حَملِ الحَيَوانِ في بَطنِ أُمِّه دونَها؛ لأنَّه تابِعٌ لها، ولا يَجوزُ أن يَكونَ مَقصودًا بالبَيعِ وتَبَعًا لأُمِّه في وقتٍ واحِدٍ.
2- مِنَ الإجماعِ: نُقِلَ الإجماعُ على عَدَمِ جَوازِ بَيعِ الحَملِ في بَطنِ أُمِّه مستقِلًّا عن أُمِّه، وعَدَمِ جَوازِ بَيعِ المَضامينِ والملاقيحِ، ومِمَّن نَقَلَه ابنُ المُنذِرِ
[1387] قال: (أجمَعوا على فسادِ بَيعِ حَبَلِ الحَبَلةِ، وما في بَطنِ النَّاقةِ). ((الإجماع)) (ص: 95)، وقال أيضًا: (أجمَعوا على أنَّ بَيعَ المَضامينِ والملاقيحِ لا يَجوزُ). ((الإشراف)) (6/17). ، وابنُ عَبدِ البَرِّ
[1388] قال: (اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّ بَيعَ ما في بُطونِ الإناثِ لا يَجوزُ؛ لأنَّه غَرَرٌ وخَطَرٌ ومَجهولٌ). ((الاستِذكار)) (6/456). ، وابنُ رُشدٍ
[1389] قال: (أمَّا بَيعُ حَبَلِ الحَبَلةِ: ففيه تَأويلانِ:... وقيلَ: إنَّما هو بَيعُ جَنينِ النَّاقةِ، وهذا مِن بابِ النَّهيِ عن بَيعِ المَضامينِ والملاقيحِ. والمَضامينُ: هيَ ما في بُطونِ الحَوامِلِ، والملاقيحُ: ما في ظُهورِ الفُحولِ، فهذه كُلُّها بُيوعٌ جاهليَّةٌ مُتَّفَقٌ على تَحريمِها). ((بداية المجتهد)) (3/168). .
3- مِنَ المَعقولِ: فالمَقصودُ والتَّبَعُ مُتَضادَّانِ، ولا يَجوزُ الجَمعُ بَينَ مُتَضادَّينِ؛ لأنَّ مِن صِفاتِهما أنَّهما لا يَجتَمِعانِ، فالجَمعُ بَينَهما في وقتٍ واحِدٍ وحالةٍ واحِدةٍ مُستَحيلٌ
[1390] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/122). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- طَوافُ الصَّدَرِ -أي الوداعِ- في العُمرةِ غَيرُ لازِمٍ عِندَ كَثيرينَ في حَقِّ مَن قَدِمَ مُعتَمِرًا إذا أرادَ الرُّجوعَ إلى أهلِه كَما في الحَجِّ؛ حَيثُ قالوا: ليسَ في العُمرةِ طَوافُ صَدَرٍ ولا طَوافُ قُدومٍ؛ لأنَّ مُعظَمَ الرُّكنِ في العُمرةِ الطَّوافُ، وهو مَقصودٌ؛ حَيثُ إنَّ للعُمرةِ رُكنَينِ: الطَّوافَ، والسَّعيَ، وما هو مُعظَمُ الرُّكنِ في النُّسُكِ لا يَتَكَرَّرُ عِندَ الصَّدرِ، كالوُقوفِ في الحَجِّ؛ لأنَّ الشَّيءَ الواحِدَ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُعظَمَ الرُّكنِ في نُسُكٍ، وهو بعَينِه غَيرُ رُكنٍ في ذلك النُّسُكِ، ولأنَّ ما هو مُعظَمُ الرُّكنِ مَقصودٌ، وطَوافُ الصَّدَرِ تَبَعٌ يَجِبُ لقَصدِ تَوديعِ البَيتِ، والشَّيءُ الواحِدُ لا يَكونُ مَقصودًا وتَبَعًا
[1391] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/35). .
2- لا يَجوزُ بَيعُ حَبَلِ الحَبَلةِ؛ لأنَّ المَبيعَ ليسَ بمَملوكٍ ولا مَعلومٍ ولا مَقدورٍ على تَسليمِه. وكذلك المَضامينُ والملاقيحُ، إلَّا أنَّ وَصفَ المُلوكيَّةِ لا يَنتَفي عَمَّا في البَطنِ؛ إذ مِلكُه تابِعٌ لمِلْكِ أُمِّه
[1392] يُنظر: ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (2/671). وينظر أيضًا: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/269). ، فلا يَكونُ تابِعًا ومَقصودًا.
انظر أيضا:
عرض الهوامش