موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: التَّابِعُ لا يُفرَدُ بالحُكمِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّابِعُ لا يُفرَدُ بالحُكمِ" [1273] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 117)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 102)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 309)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 21)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 333)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/441)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 67). . وصيغةِ: "التَّابِعُ لا يُفرَدُ بالحُكمِ ما لم يَصِرْ مَقصودًا" [1274] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 257)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/441). . وصيغةِ: "حُكمُ التَّابِعِ حُكمُ المَتبوعِ" [1275] يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (2/439)، ((شرح العضد)) (2/665). . وصيغةِ: "حُكمُ التَّبَعِ لا يُفارِقُ حُكمَ الأصلِ" [1276] يُنظر: ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (6/81)، ((البناية)) للعيني (13/6). . وكذلك: "حُكمُ التَّبَعِ لا يُخالِفُ حُكمَ الأصلِ" [1277] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (2/122)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (2/62). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما كان تَبَعًا لغَيرِه في الوُجودِ لا يَنفرِدُ بحُكمٍ عن مَتبوعِه مِنَ الجِهةِ التي اقتَضَت تَبَعيَّتَه له، بَل يَدخُلُ في الحُكمِ مَعَ مَتبوعِه، فلا يَنفرِدُ التَّابِعُ بحُكمٍ يُخالِفُ حُكمَ مَتبوعِه، والمَسائِلُ والصُّوَرُ التَّابِعةُ لغَيرِها يَشمَلُها حُكمُ مَتبوعِها، فلا تُفرَدُ بحُكمٍ خاصٍّ، فلَو أُفرِدَت بحُكمٍ لثَبتَ لها حُكمٌ آخَرُ. وهذا هو الموجِبُ لكَونِ كَثيرٍ مِنَ التَّوابِعِ تُخالِفُ غَيرَها، فيُقالُ فيها: إنَّها ثابِتةٌ على وَجهِ التَّبَعِ، وكَما لا يُفرَدُ التَّابِعُ بالحُكمِ فإنَّه كذلك لا يَجوزُ أن يَكونَ حُكمُه أقوى مِن حُكمِ المَتبوعِ.
والتَّابِعُ لا يُفرَدُ بالحُكمِ ما لم يَصِرْ مَقصودًا، أمَّا إذا صارَ التَّابِعُ مَقصودًا فإنَّه يُفرَدُ بالحُكمِ، وذلك كَزَوائِدِ المَغصوبِ المُنفصِلةِ المُتَولِّدةِ؛ فإنَّها أمانةٌ في يَدِ الغاصِبِ غَيرُ مَضمونةٍ عليه إلَّا بالتَّعَدِّي عليها أو مَنعِها بَعدَ الطَّلَبِ، فإنَّه يَضمَنُها حينَئِذٍ؛ لأنَّها صارَت مَقصودةً [1278] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (18/313)، ((الفتاوى الكبرى الفقهية)) لابن حجر الهيتمي (2/256)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 331)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 257). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (التَّابِعُ لا يُفرَدُ)، ووَجهُ ذلك أنَّ التَّابِعَ تابِعٌ لمَتبوعِه في الحُكمِ، ولا يَنفرِدُ بحُكمٍ خاصٍّ حتَّى لا يَنقَلِبَ أصلًا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والقَواعِدُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَرَّقَ نَخلَ بني النَّضيرِ وقَطَع، وهيَ البُوَيرةُ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر: 5] [1279] أخرجه البخاري (4884)، ومسلم (1746). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَرَّقَ نَخلَ بني النَّضيرِ، وهذا جائِز لِما فيه مِنَ النِّكايةِ بالعَدوِّ، لكِنَّ هذا التَّحريقَ يُؤَدِّي إلى تَعذيبِ الحَيَواناتِ بالنَّارِ مِنَ الحَشَراتِ والطُّيورِ، فتَعذيبُ هذه الأشياءِ إذا كانت على وَجهِ الاستِقلالِ مُحَرَّمٌ ولا يَجوزُ؛ لأنَّه لا يُعَذِّبُ بالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ، لكِنَّه جازَ تَبَعًا لغَيرِه، فلمَّا كان التَّحريقُ فيه مَصلَحةٌ، فعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ أنَّه سَيَتَرَتَّبُ على ذلك احتِمالُ حَرقِ شَيءٍ مِنَ الحَيَواناتِ ونَحوِها [1280] يُنظر: ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 252). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (التَّابِعُ لا يُفرَدُ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا أزالَ المُحرِمُ ظُفرَه؛ لأذاه، كَما لوِ انكَسَرَ ظُفرُه فأزالُه، فلا فِديةَ؛ لأنَّه أُزيلَ لأذاه، أو كَزَوالِ الشَّعرِ مَعَ غَيرِه، كَقَطعِ جِلدٍ عليه شَعرٌ، فلا يَفدي؛ لأنَّه زالَ بالتَّبَعيَّةِ لغَيرِه، والتَّابِعُ لا يُفرَدُ بحُكمٍ [1281] يُنظر: ((الفوائد المنتخبات)) لابن جامع (1/541)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (2/324). .
2- موجِباتُ الصَّلاةِ تابِعةٌ لإحرامِها، فلا تَنفرِدُ بنيَّةٍ ولا بوقتٍ ولا بمَكانٍ. ولَيسَ كذلك الطَّوافُ وغَيرُه مِن أركانِ الحَجِّ؛ لأنَّه ليسَ في حُكمِ التَّابِعِ للإحرامِ، ألَا تَرى أنَّه يَنفرِدُ الطَّوافُ بنيَّةٍ؟ فلَو طاف حَولَ البَيتِ لطَلَبِ غَريمٍ له لم يُجْزِه، وكذلك يَنفرِدُ بوقتٍ يُخالِفُ وقتَ الإحرامِ، وبِمَكانٍ [1282] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (1/109). .
3- زَوائِدُ المَبيعِ المُنفصِلةُ المُتَولِّدةُ إذا حَدَثَت قَبلَ القَبضِ تَكونُ تَبَعًا للمَبيعِ، ولا يُقابِلُها شَيءٌ مِنَ الثَّمَنِ لو تَلِفَت، ولَكِن لو أتلَفها البائِعُ سَقَطَت حِصَّتُها مِنَ الثَّمَنِ، فيُقسَمُ الثَّمَنُ على قيمةِ الأصلِ يَومَ العَقدِ وعلى قيمةِ الزِّيادةِ يَومَ الاستِهلاكِ؛ لأنَّ التَّابِعَ لا يُفرَدُ بالحُكمِ ما لم يَصِرْ مَقصودًا، أمَّا إذا صارَ التَّابِعُ مَقصودًا فإنَّه يُفرَدُ بالحُكمِ [1283] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 257)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/442). .
4- الجَنينُ الذي يوجَدُ في بَطنِ الشَّاةِ يَجوزُ أكلُه إذا ذُكِّيَت أُمُّه؛ لأنَّ ذَكاةَ أُمِّه ذَكاةٌ له، لأنَّه جُزءٌ مِن أجزائِها، كَيَدِها ورَأسِها، وأجزاءُ المَذبوحِ لا تَفتَقِرُ إلى ذَكاةٍ مُستَقِلَّةٍ. والحَملُ ما دامَ جَنينًا فهو كالجُزءِ مِنها، لا يُفرَدُ بحُكمٍ، فإذا ذُكِّيَتِ الأُمُّ أتَتِ الذَّكاةُ على جَميعِ أجزائِها التي مِن جُملَتِها الجَنينُ [1284] يُنظر: ((تهذيب سنن أبي داود)) لابن القيم (2/272). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
استُثنِي مِن هذه القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ، مِنها [1285] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 258)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/443). :
1- أنَّ الجَنينَ يورَثُ، فتَكونُ ديَتُه بَينَ ورَثَتِه. فلَو ضُرِبَ بَطنُ امرَأةٍ حامِلٍ فأسقطَت جَنينًا مَيِّتًا، يَضمَنُ الضَّارِبُ دِيَته التي تُسَمَّى (غُرَّةً)، ولَو كان تابِعًا لأُمِّه.
2- لو أبطَلَ المَديونُ الأجَلَ صَحَّ، ويَحِلُّ الدَّينُ، مَعَ أنَّ الأجَلَ صِفةٌ له، والصِّفةُ تابِعةٌ للمَوصوفِ.

انظر أيضا: