الفرعُ الثَّاني: إذا اجتَمَعَ الحَلالُ والحَرامُ غَلَبَ جانِبُ الحَرامِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "إذا اجتَمَعَ الحَلالُ والحَرامُ أوِ المُبيحُ والمُحَرِّمُ غَلَبَ جانِبُ الحَرامِ"
[794] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/125)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص:105). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ"ما اجتَمَعَ الحَلالُ والحَرامُ إلَّا غَلبَ الحَرامُ الحَلالَ"
[795] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/200). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. إذا اجتَمَعَ في فِعلٍ ما يَقتَضي تَحريمَه وما يَقتَضي إباحَتَه، فإنَّه يُقدَّمُ التَّحريمُ في الأصَحِّ؛ لأنَّه أحوَطُ، وفَصَّل الزَّركَشيُّ في القاعِدةِ، فبَيَّنَ أنَّ اختِلاطَ الحَرامِ بالحَلالِ له صورَتانِ:
الأولى: أن يُستَهلَكَ الحَرامُ، وهذا لا أثَرَ له غالبًا، كالطِّيبِ يَحرُمُ على المُحرِمِ، ولو أكَل شَيئًا فيه طِيبٌ قدِ استُهلِكَ لم تَجِبِ الفِديةُ.
الثَّانية: أن لا يَكونَ مُستَهلَكًا، فإن أمكَنَ التَّمييزُ وجَبَ كَما لوِ اختَلطَ دِرهَمٌ حَرامٌ بدَراهِمَ حَلالٍ، فيَحرُمُ التَّصَرُّفُ فيهما حتَّى يُمَيِّزَه.
وإن لم يُمكِنْ؛ فإن كان غَيرَ مُنحَصِرٍ فعَفوٌ، وإن كان مَحصورًا فإن كان لا يُتَوصَّلُ إلى استِعمالِ المُباحِ إلَّا بالحَرامِ، غَلبَ الحَرامُ احتياطًا، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ تَطبيقًا للقاعِدةِ الأُمِّ
[796] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3727)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/94)، ((المنثور)) للزركشي (1/125-130)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/200)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص:105)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص:93). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ: - عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشتَبِهاتٌ لا يَعلَمُهنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحَرامِ )) [797] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الأعيانَ التي تَوارَدَ عليها سَبَبٌ يُبيحُها وسَبَبٌ يُحَرِّمُها هيَ مِنَ الشُّبُهاتِ التي لا يَتَّضِحُ حِلُّها، ولا تَتَّضِحُ حُرمَتُها، وقد نَدَبنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اجتنابِها والتَّباعُدِ عنها؛ لأنَّ هذا أسلَمُ للمَرءِ في دينِه وعِرضِه، ولا يُمكِنُ اتِّقاؤُها إلَّا إذا غَلَّبنا السَّبَبَ المانِعَ مِنها أوِ المُحَرِّمَ لها
[798] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/117)، ((تلقيح الأفهام العلية)) للسعيدان (ص: 294). .
- وعنِ الحَسَنِ بنِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: حَفِظتُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك )) [799] أخرجه الترمذي (2518)، والنسائي (5711)، وأحمد (1723). صححه ابن حبان في ((صحيحهـ)) (722)، والنووي في ((بستان العارفين)) (32)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/42)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الحَديثَ يَدُلُّ على تَركِ ما فيه شَكٌّ مِنَ الأفعالِ إلى ما لا شَكَّ فيه مِنها، والأشياءُ التي فيها مُحَلِّلٌ ومُحَرِّمٌ هيَ مِنَ الأشياءِ التي تَتَرَدَّدُ النَّفسُ في فِعلِها مِن عَدَمِه، ويَبقى الإنسانُ شاكًّا في حِلِّها وحُرمَتِها، فحينَئِذٍ تَكونُ مِنَ الأشياءِ المُريبةِ، فإذا تَحَقَّقَ ذلك فيها فقد أُمِرنا أن نَدَعَها إلى ما لا رَيبَ فيه ولا تَرَدُّدَ، ولا يَكونُ ذلك إلَّا إذا غَلَّبنا جانِبَها المُحَرِّمَ لها، فنَترُكُها
[800] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3727)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/94)، ((تلقيح الأفهام العلية)) للسعيدان (ص: 294). .
2- مِنَ المَعقولِ:وهو أنَّ فِعلَ الحَظرِ يَستَلزِمُ مَفسَدةً، بخِلافِ الإباحةِ، فلا يَتَعَلَّقُ بفِعلِها وتَركِها مَصلَحةٌ ولا مَفسَدةٌ، ودَرءُ المَفسَدةِ يُغَلَّبُ دائِمًا على جانِبِ المَصلَحةِ
[801] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (33/389). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا قال: إحداكُما طالِقٌ، ولم يَنوِ إحداهما على التَّعيينِ، حَرُمَتِ الزَّوجَتانِ عليه إلى حينِ التَّعيينِ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدةٍ مِنهما يُحتَمَلُ أن تَكونَ هيَ المُطَلَّقةَ فتَحرُمُ، أو غَيرَ المُطَلَّقةِ فلا تَحرُمُ، وإذا اجتَمَعَ الحَلالُ والحَرامُ غلبَ الحَرامُ
[802] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/314)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/342)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص:106). .
2- لو كان بَعضُ الشَّجَرةِ في الحِلِّ وبَعضُها في الحَرَمِ، حَرُم عليه قَطعُها؛ تَغليبًا للتَّحريمِ
[803] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/130)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص:106)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص:94). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءٌ:شَذَّ عنِ القاعِدةِ مَسائِلُ؛ مِنها:
1- إذا رَمى سَهمًا إلى طائِرٍ فجَرَحَه ووقَعَ ثُمَّ وُجِدَ مَيِّتًا، فإنَّه يَحِلُّ
[804] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/202). .
2- إذا اختَلطَت حَمامةٌ واحِدةٌ بحَماماتِه فله أن يَأكُلَ بالاجتِهادِ واحِدةً واحِدةً، حتَّى تَبقى واحِدةٌ، كَما لوِ اختَلطَت ثَمَرةُ الغَيرِ بثَمَرِه
[805] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/202). .