موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّاني: الشَّكُّ في شَرطِ العِبادةِ بَعدَ فراغِها لا يُؤَثِّرُ فيها


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الشَّكُّ في شَرطِ العِبادةِ بَعدَ فراغِها لا يُؤَثِّرُ فيها" [619] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/224)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (9/115). ، وبصيغةِ: "الشَّكُّ بَعدَ الفراغِ مِنَ العِبادةِ لا يُؤَثِّرُ" [620] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/257)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/206). ، وبصيغةِ: "الشَّكُّ بَعدَ الفِعلِ لا يُؤَثِّرُ" [621] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/207)، ((فيض الجليل)) لأحمد القعيمي (1/67). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
هذه القاعِدةُ تُبَيِّنُ حالةً مِن حالاتِ الشَّكِّ التي لا يُلتَفتُ إليها، فالشُّكوكُ التي لا يُلتَفَتُ إليها تَكونُ في ثَلاثِ حالاتٍ:
1- أن تَكونَ مُجَرَّدَ وهمٍ لا حَقيقةَ له، فهذه مُطَّرَحةٌ، ولا يُلتَفَتُ إليها إطلاقًا.
2- أن تَكثُرَ الشُّكوكُ، ويَكونَ الإنسانُ كُلَّما تَوضَّأ شَكَّ، وكُلَّما صَلَّى شَكَّ، وكُلَّما فعَل فِعلًا شَكَّ، فهذا أيضًا يَجِبُ طَرحُه وعَدَمُ اعتِبارِه.
3- إذا كان الشَّكُّ بَعدَ انتِهاءِ العِبادةِ فإنَّه لا يُلتَفَتُ إليه ما لم يُتَيَقَّنِ الأمرُ؛ لأنَّ الالتِفاتَ إلى الشَّكِّ بَعدَ الفراغِ مِنَ العِبادةِ لو كُلِّف به العَبدُ لأدَّى ذلك إلى الحَرَجِ والمَشَقَّةِ.
قال ابنُ السُّبكيِّ: (فرَّقَ الشَّافِعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه بَينَ الشَّكِّ في الفِعلِ والشَّكِّ بَعدَه، فلم يوجِبْ إعادةَ المَفعولِ بَعدَ الشَّكِّ. ووجهُ الفَرقِ: أنَّ أحَدَهما يُؤَدِّي إلى المَشَقَّةِ، وهو الشَّكُّ بَعدَ الفِعلِ؛ فإنَّ المُصَلِّيَ لو كُلِّف أن يَكونَ ذاكِرًا لِما صَلَّى تَعَذَّر ذلك عليه ولم يُطِقْه أحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وإن لم يَقَعْ بَينَ الصَّلواتِ إلَّا فِعلٌ يَسيرٌ) [622] ((الأشباه والنظائر)) (2/333). .
وهذه القاعِدةُ مِن بابِ تَقديمِ الظَّاهرِ على الأصلِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ مِن أفعالِ المُكَلَّفينَ أنَّها وقَعَت على الوَجهِ الصَّحيحِ، قال ابنُ رَجَبٍ: (إذا شَكَّ بَعدَ الفراغِ مِنَ الصَّلاةِ أو غَيرِها مِنَ العِباداتِ في تَركِ رُكنٍ مِنها، فإنَّه لا يُلتَفَتُ إلى الشَّكِّ، وإن كان الأصلُ عَدَمَ الإتيانِ به، وعَدَمَ بَراءةِ الذِّمَّةِ، لكِنَّ الظَّاهرَ مِن أفعالِ المُكَلَّفينَ للعِباداتِ أن تَقَعَ على وَجهِ الكَمالِ، فرُجِّحَ هذا الظَّاهِرُ على الأصلِ) [623] ((القواعد)) (3/135). .
فالعَمَلُ بهذه القاعِدةِ هو حَملٌ لأمرِ الشَّاكِّ على ما كان، وهو الخُروجُ عنِ العِبادةِ بَعدَ التَّمامِ، واستِصحابُ اليَقينِ [624] ينظر للمعنى الإجمالي: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (1/75)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (2/333)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (14/90)، ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 135)، ((موسوعة أحكام الطهارة)) للدبيان (7/287). .
وهذه القاعِدةُ مُقَيِّدةٌ للقاعِدةِ الأُمِّ (الشَّكُّ في الشَّرطِ يوجِبُ الشَّكَّ في المَشروطِ)؛ حَيثُ إنَّ القاعِدةَ الأُمَّ يُعمَلُ بها في أثناءِ العِبادةِ قَبلَ الفراغِ مِنها، أمَّا هذه القاعِدةُ فمَجالُ عَمَلِها بَعدَ الفراغِ مِنَ العِبادةِ كَما يَنُصُّ على ذلك مَنطوقُها.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقَواعِدِ الآتيةِ:
1- قاعِدةُ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّ الواجِبَ هنا هو استِصحابُ الحالِ المَعلومِ، واطِّراحُ الشَّكِّ.
2- قاعِدةُ: (المَشَقَّةُ تَجلبُ التَّيسيرَ)؛ حَيثُ إنَّ الإعادةَ في حالةِ الشَّكِّ بَعدَ فراغِ العِبادةِ تُؤَدِّي إلى المَشَقَّةِ؛ لأنَّ المُصَلِّيَ لو كُلِّف أن يَكونَ ذاكِرًا لِما صَلَّى لتَعَذَّرَ عليه ذلك، ولم يُطِقْه أحَدٌ مِنَ النَّاسِ؛ فسُومِحَ فيه [625] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (2/333)، ((المنثور)) للزركشي (2/257). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا عَلمَ نَجاسةَ الماءِ الذي تَوضَّأ مِنه، وشَكَّ هَل كان وضوؤه قَبلَ نَجاسةٍ أو بَعدَها؟ لم يُعِدْ؛ لأنَّ الأصلَ الطَّهارةُ؛ لعَدَمِ العِلمِ أنَّه صَلَّى بنَجاسةٍ، فلا يَلزَمُه أن يُعيدَ إلَّا ما تَيَقَّنَه بماءٍ نَجِسٍ؛ لشَكِّه في شَرطِ العِبادةِ بَعدَ فراغِها [626] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (1/98)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (1/182)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (1/50). .
2- إذا شَكَّ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ بَعدَ فراغِ الصَّلاةِ لم يَلزَمْه شَيءٌ؛ لأنَّها عِبادةٌ، فمَتى شَكَّ فيها وهو فيها بَنى على اليَقينِ. وإن أخبَرَه ثِقةٌ عن عَدَدِ رَكَعاتِه رَجَعَ إليه إذا كان عَدلًا. وإن شَكَّ في ذلك بَعدَ فراغِه مِنَ الصَّلاةِ لم يَلتَفِتْ إليه؛ لأنَّ الشَّكَّ في شَرطِ العِبادةِ بَعدَ فراغِها لا يُؤَثِّرُ فيها [627] يُنظر: ((التعليقة)) للقاضي حسين (2/876)، ((المغني)) لابن قدامة (5/224)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (14/90). .
3- إذا شَكَّ الصَّائِمُ في النِّيَّةِ بَعدَ الغُروبِ فلا أثَرَ له؛ لأنَّه شَكَّ في العِبادةِ بَعدَ الفراغِ مِنها [628] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/260). .

انظر أيضا: