موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الأوَّلُ: قاعِدةُ: الشَّكُّ في الشَّرطِ يوجِبُ الشَّكَّ في المَشروطِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الشَّكُّ في الشَّرطِ يوجِبُ الشَّكَّ في المَشروطِ" [603] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/454)، ((التحصيل)) للأرموي (1/428)، ((الفروق)) (1/111)، ((الذخيرة)) (1/219) كلاهما للقرافي، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/770)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1422)، ((شرح المنهج)) للمنجور (2/509). ، وبصيغةِ: "الشَّكُّ في الشَّرطِ مانِعٌ مِن ترَتُّبِ المَشروطِ" [604] يُنظر: ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/192). . وكذلك بصيغةِ: "الشَّكُّ في الشَّرطِ يُخِلُّ بالحُكمِ" [605] يُنظر: ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (3/202). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الشَّكَّ في الشَّرطِ يُؤَثِّرُ، بمَعنى: أنَّه مانِعٌ مِن تَرتيبِ المَشروطِ، أي: أنَّ الشَّكَّ في الشَّرطِ يَمنَعُ مِن وُجوبِ الحُكمِ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ كُلَّ مَشكوكٍ فيه ليسَ بمُعتَبَرٍ، ويَجِبُ اعتِبارُ الأصلِ السَّابقِ على الشَّكِّ [606] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/219)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1422)، ((التوضيح)) لخليل (1/326)، ((المنثور)) للزركشي (2/260)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن حجر الهيتمي (4/203)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/516). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يَدُلُّ على أنَّ الأصلَ ألَّا يُعتَبَرَ في الشَّرعِ إلَّا العِلمُ؛ لعَدَمِ الخَطَأِ فيه قَطعًا، لكِن تَعَذَّرَ العِلمُ في أكثَرِ الصُّورِ، فجَوَّزَ الشَّرعُ اتِّباعَ الظُّنونِ؛ لغَلَبةِ إصابَتِها، وبَقيَ الشَّكُّ على مُقتَضى الأصلِ؛ فكُلُّ مَشكوكٍ فيه ليسَ بمُعتَبَرٍ، ويَجِبُ اعتِبارُ الأصلِ السَّابقِ على الشَّكِّ [607] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/218). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لها بالقَواعِدِ الآتيةِ:
1- قاعِدةُ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ).
2- قاعِدةُ: (كُلُّ مَشكوكٍ فيه ليسَ بمُعتَبَرٍ)؛ ولذلك قال ابنُ عَرَفةَ: (والنُّكتةُ: أنَّ المَشكوكَ فيه مُطَّرَحٌ، فالشَّكُّ في حُصولِ الشَّرطِ يوجِبُ طَرحَ الشَّرطِ، وذلك يَمنَعُ الإقدامَ على المَشروطِ) [608] ((المختصر الفقهي)) (4/236). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- يَجِبُ الوُضوءُ على مَن تَيَقَّنَ الطَّهارةَ وشَكَّ في الحَدَثِ على المَشهورِ عِندَ المالكيَّةِ، فإذا تَيَقَّنَ الطَّهارةَ وشَكَّ في انتِقاضِها، فالمَشكوكُ فيه مُلغًى؛ لأنَّ شَغلَ الذِّمَّةِ بالصَّلاةِ مُتَيَقَّنٌ يَحتاجُ إلى سَبَبٍ مُبَرِّئٍ، والشَّكُّ في الشَّرطِ يوجِبُ الشَّكَّ في المَشروطِ، فالشَّكُّ في الطَّهارةِ يوجِبُ الشَّكَّ في الصَّلاةِ الواقِعةِ سَبَبًا مُبَرِّئًا، فيَقَعُ الشَّكُّ في الصَّلاةِ الواقِعةِ بالطَّهارةِ المَشكوكِ فيها، والمَشكوكُ فيه مُلغًى، فيُستَصحَبُ شَغلُ الذِّمَّةِ [609] يُنظر: ((الذخيرة)) (1/219)، ((الفروق)) (1/111) كلاهما للقرافي، ((إيضاح المسالك)) (1/192)، ((عدة البروق)) (ص: 90) كلاهما للونشريسي. .
فإنَّ مَن تَيَقَّنَ الوُضوءَ وشَكَّ في الحَدَثِ تَجاذَبَه أصلانِ؛ الأوَّلُ: الأصلُ بَقاءُ ما كان على ما كان، وأنَّه لا يُنتَقَلُ عنِ الأصلِ -الذي هو الطَّهارةُ هنا- إلَّا بيَقينٍ، وعليه فلا يَجِبُ الوُضوءُ على مَن شَكَّ في الحَدَثِ، وبهذا أخَذَ الجُمهورُ وبَعضُ المالكيَّةِ.
والثَّاني: هو أنَّ عِمارةَ الذِّمَّةِ بَعدَ التَّكليفِ -وهيَ الصَّلاةُ هنا- ثابتةٌ بيَقينٍ، ولا يُبَرَّأُ مِنها إلَّا بيَقينٍ، وأنَّ الشَّكَّ في الشَّرطِ -وهو الطَّهارةُ- شَكٌّ في المَشروطِ، وهو الصَّلاةُ. والذِّمَّةُ لا يُبَرَّأُ مِنها بالشَّكِّ؛ فيَجِبُ الوُضوءُ في هذه الحالِ، وهو المَشهورُ عِندَ المالكيَّةِ [610] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/116). .
2- يَمتَنِعُ القِصاصُ مِنَ الأبِ إذا قَتَل ابنَه؛ لأنَّ شَرطَ القِصاصِ القَتلُ العَمدُ العُدوانُ، والعَداوةُ في قَتلِ الأبِ مَشكوكٌ فيها؛ لِما جُبل عليه الأبُ مِنَ الرَّأفةِ والشَّفقةِ، فحَصَل الشَّكُّ في الشَّرطِ؛ فلا يَتَرَتَّبُ المَشروطُ [611] يُنظر: ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/192)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/516)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/196). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
نَصَّ ابنُ الرِّفعةِ على أنَّا لا نُرَتِّبُ الحُكمَ عِندَ الشَّكِّ في الشَّرطِ إذا كان وُجوديًّا، أمَّا إذا كان عَدَميًّا، فالأصلُ العَدَمُ، فيَتَرَتَّبُ الحُكمُ عليه، فإذا قال الرَّجُلُ لزَوجَتِه: إن خَرَجتِ بغَيرِ إذني فأنتِ طالِقٌ، فخَرَجَت، وادَّعى أنَّه أذِنَ، وأنكَرَتِ الإذنَ، فالقَولُ قَولُها ويَقَعُ الطَّلاقُ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُه. ومَن لم يوقِعْه يَتَمَسَّكُ بأنَّ الأصلَ بَقاءُ النِّكاحِ [612] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/261). وينظر أيضًا: ((الفتاوى الكبرى)) لابن حجر الهيتمي (4/203). .

انظر أيضا: