موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّاني: ما ليسَ بمَشروطٍ يَجوزُ أخذُه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما ليسَ بمَشروطٍ يَجوزُ أخذُه" [436] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/159). ، وبصيغةِ: "عَدَمُ الشَّرطِ لا يَكونُ مانِعًا عن وُجودِ المَشروطِ" [437] يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (1/375). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما لم يُنَصَّ عليه في العَقدِ مِنَ الشُّروطِ، أو كان مِن مَصلحَتِه، جاز أخذُه وإن لم يُشتَرَطْ؛ لأنَّ عَدَمَ الشَّرطِ لا يَكونُ مانِعًا عن وُجودِ المَشروطِ، وكذلك مَن قامَ عن غَيرِه بأداءِ طاعةٍ وقُربةٍ مِمَّا تَجوزُ فيه النِّيابةُ، ولمَ يَشتَرِطْ على عَمَلِه أجرًا، ثُمَّ أعطاه المَنوبُ عنه شَيئًا بَعدَ أداءِ العَمَلِ -بدونِ شَرطٍ- فذلك جائِزٌ، وله أن يَأخُذَه [438] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/159)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (1/375)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (9/273). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ أحَقَّ ما أخَذتُم عليه أجرًا كِتابُ اللَّهِ )) [439] أخرجه البخاري (5737). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على جَوازِ أخذِ الأُجرةِ على القُرآنِ الكَريمِ مُشاهَرةً -كُلَّ شَهرٍ بكَذا- أو مُسانَهةً -كُلَّ سَنةٍ بكَذا- أو مُياوَمةً -كُلَّ يَومٍ بكَذا- وجازَتِ الإجارةُ أيضًا على الحِفظِ لكُلِّ القُرآنِ أو لبَعضِه، وجاز لمُعَلِّمِ القُرآنِ أخذُ الأُجرةِ على تَعليمِه، وإن لم تُشتَرَطِ ابتِداءً [440] يُنظر: ((التاج والإكليل)) للمواق (7/ 534)، ((مواهب الجليل)) لأحمد الشنقيطي (4/127). .
- وعن أبي سَعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَهطًا مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انطَلقوا في سَفرةٍ سافروها، حتَّى نَزَلوا بحَيٍّ مِن أحياءِ العَرَبِ، فاستَضافوهم فأبَوا أن يُضَيِّفوهم، فلُدِغَ سَيِّدُ ذلك الحَيِّ، فسَعَوا له بكُلِّ شَيءٍ، لا يَنفعُه شَيءٌ، فقال بَعضُهم: لو أتَيتُم هَؤُلاءِ الرَّهطَ الذينَ قد نَزَلوا بكُم، لعَلَّه أن يَكونَ عِندَ بَعضِهم شَيءٌ، فأتَوهم، فقالوا: يا أيُّها الرَّهطُ، إنَّ سَيِّدَنا لُدِغَ، فسَعَينا له بكُلِّ شَيءٍ، لا يَنفعُه شَيءٌ، فهَل عِندَ أحَدٍ مِنكُم شَيءٌ؟ فقال بَعضُهم: نَعَم، واللهِ إنِّي لراقٍ، ولكِنْ واللهُ لقدِ استَضَفناكُم فلم تُضَيِّفونا، فما أنا براقٍ لكُم حتَّى تَجعَلوا لنا جُعلًا. فصالحوهم على قَطيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فانطَلقَ فجَعَل يَتفُلُ ويَقرَأُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حتَّى لكَأنَّما نُشِطَ مِن عِقالٍ [441] أي: كَأنَّما حُلَّ مِنَ الحَبلِ الذي شُدَّ به. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 1120). ، فانطَلقَ يَمشي ما به قَلَبةٌ [442] أي: ما به ألمٌ أو عِلَّةٌ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 1120)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 210). ، قال: فأَوْفَوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه، فقال بَعضُهم: اقسِموا. فقال الذي رَقَى: لا تَفعَلوا حتَّى نَأتيَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فنَذكُرَ له الذي كان، فنَنظُرَ ما يَأمُرُنا. فقَدِموا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذَكَروا له فقال: ((وما يُدريك أنَّها رُقيةٌ؟ أصَبتُم، اقسِموا واضرِبوا لي مَعَكُم بسَهمٍ )) [443] أخرجه البخاري (5749) واللفظ له، ومسلم (2201) مختصرًا. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اضرِبوا لي مَعَكُم بسَهمٍ)) مَعَ أنَّ ذلك لم يَكُنْ مَشروطًا بعَينِه، فدَلَّ على أنَّ ما ليسَ بمَشروطٍ يَجوزُ أخذُه [444] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/159). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ما يَقتَضيه العَقدُ يَجوزُ شَرطُهـ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- يَجوزُ للمُعَلِّمِ أخذُ الأُجرةِ على تَعليمِ القُرآنِ وإن لم تُشتَرَطِ ابتِداءً [445] يُنظر: ((شفاء الغليل)) لابن غازي (2/928)، ((منح الجليل)) لعليش (7/476)، ((مواهب الجليل من أدلة خليل)) لأحمد الشنقيطي (4/127). .
2- يَجوزُ دُخولُ ماءِ الآبارِ والأنهارِ في عُقودِ الإجاراتِ وإن لمَ تُشتَرَطْ؛ لاطِّرادِ العُرفِ بتَبَعيَّتِه [446] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/128). .
3- إذا أوقَف بئرًا على المُسلِمينَ وجَعَلها للسِّقاءِ، فلا شَكَّ أنَّ له الشُّربَ وإن لمَ يشتَرطْ؛ لدُخولِه في جُملتِهم، وكذلك لو وقَف شَيئًا على الفُقَراءِ، ثُمَّ صارَ فقيرًا، جازَ أخذُه مِنه وإن لمَ يشتَرطْ [447] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (12/191). .

انظر أيضا: