موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الأوَّلُ: يُحالُ بالحُكمِ إلى السَّبَبِ الظَّاهِرِ دونَ ما لا يُعرَفُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "يُحالُ بالحُكمِ إلى السَّبَبِ الظَّاهِرِ دونَ ما لا يُعرَفُ" [270] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (17/157). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ "إذا وجَدنا أثَرًا مَعلولًا لعِلَّةٍ ووجَدنا في مَحَلِّه عِلَّةً صالحةً له، ويُمكِنُ أن يَكونَ الأثَرُ مَعلولًا لغَيرِها لكِن لا يَتَحَقَّقُ وُجودُ غَيرِها، فهَل يُحالُ ذلك الأثَرُ على تلك العِلَّةِ المَعلومةِ أم لا؟" [271] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/108). . وبصيغةِ: "الحُكمُ الحادِثُ يُضافُ إلى السَّبَبِ المَعلومِ لا إلى المُقدَّرِ المَظنونِ" [272] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/329). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الشَّيءَ إذا استَنَدَ إلى سَبَبٍ ظاهرٍ، واحتَمَل وُجودَ أسبابٍ أُخرى مَوهومةٍ، فإنَّ الحُكمَ يَتَعَلَّقُ بالسَّبَبِ الظَّاهرِ حتَّى مَعَ احتِمالِ وُجودِ أسبابٍ أُخرى؛ لأنَّ تلك الأسبابَ الأُخرى ليسَت مُؤَكَّدةً ولم يُتَيَقَّنْ ثُبوتُها، فلا تُعارِضُ السَّبَبَ الظَّاهرَ القائِمَ، ولا يُترَكُ المَعلومُ إلى المَشكوكِ في ثُبوتِه؛ إذِ اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ، وعليه فيُسنَدُ الحُكمُ إلى السَّبَبِ الظَّاهرِ حتَّى يَتَبَيَّنَ خِلافُه، ولا عِبرةَ بغَيرِه مِنَ الأسبابِ المُتَوهَّمةِ [273] يُنظر: ((تقويم النظر)) لابن الدهان (4/306، 490)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/329)، ((القواعد)) لابن رجب (1/108)، ((القواعد)) للحصني (2/182)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (1/107)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/30)، ((تلقيح الأفهام العلية)) للسعيدان (ص: 175). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ ما سَبَقَ مِن أدِلَّةٍ في قاعِدةِ (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ويُستَدَلُّ لها أيضًا بالسُّنَّةِ:
فعن عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا أرسَلتَ كَلبَك وسَمَّيتَ فأمسَكَ وقَتَل، فكُلْ، وإن أكَل فلا تَأكُلْ؛ فإنَّما أمسَكَ على نَفسِه، وإذا خالطَ كِلابًا لم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عليها فأمسَكنَ وقَتَلنَ، فلا تَأكُلْ؛ فإنَّك لا تَدري أيُّها قَتَل، وإن رَمَيتَ الصَّيدَ فوجَدتَه بَعدَ يَومٍ أو يَومَينِ ليسَ به إلَّا أثَرُ سَهمِك، فكُلْ)) [274] أخرجه البخاري (5484) واللفظ له، ومسلم (1929). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الصَّيدَ إذا وُجِدَ بَعدَ يَومٍ أو يَومَينِ، وعليه أثَرُ السَّهمِ، أنَّه يَحِلُّ أكلُه، مَعَ احتِمالِ مَوتِه بسَبَبِ شَيءٍ آخَرَ، إلَّا أنَّ هذا الاحتِمالَ المَوهومَ لمَّا لم يَكُنْ عليه دَليلٌ، أُسنِدَ الحُكمُ إلى السَّبَبِ الظَّاهرِ، وهو السَّهمُ [275] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (5/393)، ((العدة في شرح العمدة)) لابن العطار (3/1620)، ((المفاتيح شرح المصابيح)) للمظهري (4/467). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو قال الزَّوجُ: هذا الولَدُ مِن زَوجٍ كان لكِ قَبلي، وقالتِ المَرأةُ: بَل هو مِنك، فهو مِنه؛ لأنَّ السَّبَبَ بَينَهما ظاهِرٌ، وهو الفِراشُ، وما ادَّعاه الرَّجُلُ غَيرُ مَعلومٍ، وإنَّما يُحالُ بالحُكمِ إلى السَّبَبِ الظَّاهرِ دونَ ما لا يُعرَفُ [276] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (17/157)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/123). .
2- لو جَرَحَ المُحرِمُ صَيدًا ثُمَّ انفلتَ الصَّيدُ ثُمَّ صادَفه بَعدَ ذلك ميِّتًا وتلك الجِراحةُ داميةٌ، سَواءٌ كانت كَبيرةً أو صَغيرةً، فعليه جَزاءُ الصَّيدِ في أحَدِ الوجهَينِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ؛ لأنَّ الجَرحَ سَبَبٌ ظاهرٌ لإسنادِ المَوتِ إليه [277] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (2/307) و (3/550)، ((الجامع لمسائل المدونة)) لابن يونس (5/694)، ((تقويم النظر)) لابن الدهان (4/306، 490)، ((المنثور)) للزركشي (1/327) و (2/293)، ((القواعد)) لابن رجب (1/109)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/30). .
3- إذا سَقَطَت في الماءِ نَجاسةٌ فغَيَّرَت أحَدَ أوصافِه، ثُمَّ غِبنا عنه فلمَّا رَجَعنا وجَدناه مُتَغَيِّرًا، فإنَّ التَّغَيُّرَ يُحتَمَلُ أن يَكونَ مِنَ النَّجاسةِ المُتَيَقَّنِ سُقوطُها فيه، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ بطاهرٍ آخَرَ، فيُحمَلُ على المُتَيَقَّنِ المَعلومِ، ويُسنَدُ التَّغَيُّرُ إلى النَّجاسةِ، ويُحكَمُ بنَجاسةِ الماءِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ والحَنابِلةِ؛ إحالةً على السَّبَبِ الظَّاهِرِ دونَ المُقدَّرِ المَظنونِ [278] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (1/221،220)، ((القواعد)) لابن رجب (1/ 108-109)، ((الغاية في اختصار النهاية)) للعز بن عبد السلام (1/358)، ((المغني)) لابن قدامة (5/408). .
4- إذا وُجِدَ مِنَ النَّائِمِ قَبلَ نَومِه سَبَبٌ يَقتَضي خُروجَ المَذي مِنه، ثُمَّ نامَ واستَيقَظَ ووجَدَ بللًا لم يَتَيَقَّنْه مَنيًّا، ولم يَذكُرْ حُلُمًا، فالمَنصوصُ عن أحمَدَ: أنَّه لا غُسلَ عليه؛ إحالةً للخارِجِ على السَّبَبِ المُتَيَقَّنِ، وهو المُقتَضي لخُروج المَذيِ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ وُجودِ غَيرِه، وقد تَيَقَّنَ وُجودَه [279] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/109). .

انظر أيضا: