موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: الأحكامُ لا تُبنى على ما لا طَريقَ لنا إلى مَعرِفتِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأحكامُ لا تُبنى على ما لا طَريقَ لنا إلى مَعرِفتِه" [118] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (14/12). . وصيغةِ: "ما لا طَريقَ لَنا إلى معرِفَتِه لا نتعَبَّدُ بِه" [119] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/ 746). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُبنى الأحكامُ المُتَرَتِّبةُ على أفعالِ المُكَلَّفينَ وتَرتَبطُ بما يُمكِنُ مَعرِفتُه والتَّوصُّلُ إليه، أمَّا ما لا يُمكِنُ مَعرِفتُه بطَريقٍ مِنَ الطُّرُقِ فإنَّ الأحكامَ لا تُبنى عليه ولا تَرتَبطُ به، فلو كُلِّف به العَبدُ لكان فوقَ قُدرَتِه وخارِجَ طاقَتِه، فالأحكامُ لا تُبنى على المُستَحيلاتِ، إنَّما تَنبَني على ما يُمكِنُ مَعرِفتُه، أي: على ظَواهرِ الأُمورِ التي يُمكِنُ مَعرِفتُها للبَشَرِ، ولا يَجوزُ بناؤُها على ما لا يُمكِنُ مَعرِفتُه والعِلمُ به أوِ الاطِّلاعُ عليه [120] يُنظر: ((المنتقى)) للباجي (1/123) و (2/200)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/746)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/197). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ: ومِمَّن نَقَله الباجيُّ [121] قال: (الدَّليلُ الثَّاني: أمره باعتِزالِ النِّساءِ في المَحيضِ، وذلك يَقتَضي أن يَكونَ لنا طَريقٌ إلى مَعرِفتِه ليَصِحَّ اعتِزالُهنَّ فيه، ولو لم يُعلَمْ ذلك إلَّا بَعدَ انقِضاءِ يَومٍ وليلةٍ أو ثَلاثةِ أيَّامٍ لكان قد عُلِّقَ الأمرُ بما لا طَريقَ لنا إلى مَعرِفتِه، وهذا باطِلٌ باتِّفاقٍ). ((المنتقى)) (1/123). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لا يَجوزُ شِراءُ الفِضَّةِ بالفِضَّةِ مُجازَفةً، أي: دونَ مَعرِفةِ وزنِها أو وزنِ أحَدِهما؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((... والفِضَّةُ بالفِضَّةِ وَزنًا بوزنٍ، مِثلًا بمِثلٍ، فمَن زادَ أوِ استَزادَ فهو رِبًا )) [122] أخرجه مسلم (1588) من حديثِ أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، والمُرادُ المُماثَلةُ في الوزنِ؛ فإمَّا أن يَكونَ المُرادُ أن يَكونَ مِثلًا بمِثلٍ عِندَ اللهِ، أو عِندَ المُتَعاقِدَينِ، والأوَّلُ ليسَ بمُرادٍ، فالأحكامُ لا تُبنى على ما لا طَريقَ لنا إلى مَعرِفتِه، فيُعلَمُ إذَن أنَّ المُرادَ العِلمُ بالمُماثَلةِ عِندَ المُتَعاقِدَينِ [123] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (14/12). .
2- إذا شَهدَ رَجُلانِ على رَجُلٍ أنَّه ضَرَبَ رَجُلًا بآلةٍ حادَّةٍ فلم يَزَلْ مُلازِمًا للفِراشِ حتَّى ماتَ، فعلى الجاني القِصاصُ؛ لأنَّ الثَّابتَ بالبَيِّنةِ كالثَّابتِ بالمُعايَنةِ، فقد ظَهَرَ بمَوتِه هذا السَّبَبُ ولم يُعارِضْه سَبَبٌ آخَرُ، فيَجِبُ إضافةُ الحُكمِ إليه، فالرُّوحُ لا يُمكِنُ مُشاهَدةُ أخذِها، وإنَّما طَريقُ الوُصولِ إلى إزهاقِ الرُّوحِ هو أن يَجرَحَه فيَموتَ قَبلَ أن يَبرَأَ، فلا طَريقَ لنا إلى حَقيقةِ مَعرِفةِ كَونِ المَوتِ مِنَ الضَّربةِ، وما لا طَريقَ لنا إلى مَعرِفتِه لا تَنبَني عليه الأحكامُ، وإنَّما تَنبَني على الظَّاهِرِ المَعروفِ، وهو أنَّه يَضرِبُه ويَكونُ مُلازِمًا للفِراشِ حتَّى يَموتَ [124] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/167). .
3- إذا حَلَف يمينًا وقال: إن شاءَ اللهُ، أو عَقدَ عقدًا وعَلَّقَه على مَشيئةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، فلا تَنعَقِدُ اليَمينُ ولا يَتِمُّ العَقدُ؛ لأنَّه عَلَّقَه على مَشيئةٍ لا يَعلَمُها؛ والأحكامُ إنَّما تُبنى على ما يُمكِنُ مَعرِفتُه [125] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/522)، ((غاية البيان)) للرملي (ص: 264)، ((سبل السلام)) للصنعاني (2/549)، ((ذخيرة العقبى)) للأثيوبي (30/354)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/197). .

انظر أيضا: