المَبحَثُ الأوَّلُ: قاعِدةُ المَشَقَّةُ تَجلبُ التَّيسيرَ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِالصِّيغةُ المَشهورةُ والمُتَداوَلةُ لهذه القاعِدةِ هيَ: "المَشَقَّةُ تَجلبُ التَّيسيرَ"
[738] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/49)، ((المنثور)) للزركشي (3/169)، ((القواعد)) للحصني (1/204)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 76). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِلا تَخلو التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ عن مَشَقَّةٍ عِندَ تَطبيقِها، إلَّا أنَّ هذه المَشَقَّةَ في وُسعِ المُكَلَّفِ وطاقَتِه، فإن نَشَأ عنها مَشَقَّةٌ خارِجةٌ عن قُدرةِ المُكَلَّفِ فإنَّ الشَّريعةَ تُخَفِّفُ عنه بإسقاطِ التَّكليفِ أوِ استِبدالِه بغَيرِه أو تَخفيفِه عليه، بشَرطِ كَونِ هذه المَشَقَّةِ مُنفكَّةً عنِ التَّكاليفِ، ولا قُدرةَ للمُكَلَّفِ عليها، فإذا تَعَذَّرَ على المُكَلَّفِ استِعمالُ الماءِ لمُرضٍ أو نَحوِه أُبيحَ له التَّيَمُّمُ؛ دَفعًا للحَرَجِ والمَشَقَّةِ، ولو شَقَّ عليه القيامُ في الصَّلاةِ أُبيحَ له القُعودُ فيها، وأُبيحَ للمُستَحاضةِ ودائِمِ الحَدَثِ أن يُصَلُّوا مَعَ النَّجاسةِ؛ دَفعًا للمَشَقَّةِ، ولا يَجِبُ قَضاءُ الصَّلاةِ على الحائِضِ لتَكَرُّرِها بخِلافِ الصَّومِ، كَما يَسقُطُ استِقبالُ القِبلةِ في حالةِ شِدَّةِ الخَوفِ
[739] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/49)، ((المنثور)) (3/169)، ((تشنيف المسامع)) (3/466) كلاهما للزركشي، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/208)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 76)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 64). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِدَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ:- قال اللهُ تَعالى:
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .
- وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيَتَينِ:دَلالتُهما واضِحةٌ في إرادةِ الشَّريعةِ اليُسرَ ونَفيَ الحَرَجِ والمَشَقَّةِ عنِ المُكَلَّفِ، وفيهما إشارةٌ إلى ما خُفِّف عن هذه الأُمَّةِ مِنَ المُشَدَّدِ على غَيرِهم مِنَ الإصرِ ونَحوِه، مَعَ ما شُرِعَ لهم مِنَ التَّخفيفاتِ الأُخرى؛ دَفعًا للمَشَقَّةِ
[740] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/204 ،309)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/208)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 76). .
2- مِنَ السُّنَّةِ: - عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ أعرابيًّا بال في المَسجِدِ، فثارَ إليه النَّاسُ ليَقَعوا به، فقال لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((دَعُوه، وأهريقوا على بَولِه ذَنُوبًا مِن ماءٍ -أو سَجْلًا مِن ماءٍ- فإنَّما بُعِثتُم مُيَسِّرينَ، ولم تُبعَثوا مُعَسِّرينَ)) [741] أخرجه البخاري (6128). - وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا بَعَثَ أحَدًا مِن أصحابِه في بَعضِ أمرِه، قال:
((بَشِّروا ولا تُنَفِّروا، ويَسِّروا ولا تُعَسِّروا)) [742] أخرجه مسلم (1732). .
ودَلالةُ الحديثينِ واضِحةٌ في أنَّ المَشَقَّةَ تَجلبُ التَّيسيرَ، وأنَّ الشَّريعةَ تُريدُ التَّيسيرَ على المُكَلَّفِ لا التَّعسيرَ عليه
[743] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/310،309)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 76)، ((التيسير بشرح الجامع الصحيح)) للمناوي (1/362)، ((الكوكب الدري على جامع الترمذي)) للكنكوهي (1/128،127). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِمِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الماءُ إذا تَغَيَّرَ بالمُكثِ والطِّينِ والطُّحلُبِ المُتَّصِلِ به وما في مَقَرِّه ومَمَرِّه، فإنَّه لا حَرَجَ في استِعمالِه للطَّهارةِ وغَيرِها؛ لصُعوبةِ الاحتِرازِ عن ذلك
[744] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/169)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 66). .
2- طينُ الشَّوارِعِ وما خالطَه مِن رَوثٍ وفضَلاتٍ مِمَّا يَتَعَذَّرُ الاحتِرازُ مِنه غالبًا، يُعفى عنه إذا أصابَ الثَّوبَ أوِ البَدَنَ؛ لعُسرِه وعُمومِ البَلوى به
[745] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/169)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 81). .
3- إباحةُ أداءِ النَّافِلةِ على الدَّابَّةِ في السَّفرِ، وإباحةُ القُعودِ فيها مَعَ القُدرةِ؛ دَفعًا لمَشَقَّةِ النُّزولِ في الطَّريقِ، والتَّأخُّرِ عنِ الرُّفقةِ، وغَيرِ ذلك
[746] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/ 170)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 78)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 66). .
4- أكلُ المَيتةِ إذا اضطُرَّ؛ دَفعًا للمَشاقِّ المُتَرَتِّبةِ على عَدَمِ الأكلِ، وتَيسيرًا على العِبادِ
[747] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/ 171)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 78)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 67). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِأقسامُ المَشَقَّةِ:المَشَقَّةُ التي يَحصُلُ التَّيسيرُ بسَبَبِها على قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: مَشَقَّةٌ لا تَنفَكُّ عنها العِبادةُ غالبًا، كَمَشَقَّةِ البَردِ في الوُضوءِ والغُسلِ، ومَشَقَّةِ الصَّومِ في شِدَّةِ الحَرِّ وطولِ النَّهارِ، ومَشَقَّةِ السَّفرِ التي لا انفِكاكَ للحَجِّ والجِهادِ عنها، ومَشَقَّةِ ألمِ الحُدودِ، ورَجمِ الزُّناةِ، وقَتلِ الجُناةِ؛ فلا أثَرَ لهذه في إسقاطِ العِباداتِ في كُلِّ الأوقاتِ.
القِسمُ الثَّاني: مَشَقَّةٌ تَنفَكُّ عنها العِباداتُ غالبًا، وهيَ على مَراتِبَ:
المَرتَبةُ الأولى: مَشَقَّةٌ عَظيمةٌ فادِحةٌ: كَمَشَقَّةِ الخَوفِ على النُّفوسِ، والأطرافِ ومَنافِعِ الأعضاءِ؛ فهيَ موجِبةٌ للتَّخفيفِ والتَّرخيصِ قَطعًا؛ لأنَّ حِفظَ النُّفوسِ والأطرافِ لإقامةِ مَصالحِ الدِّينِ أَولى مِن تَعريضِها للفواتِ في عِبادةٍ أو عِباداتٍ يَفوتُ بها أمثالُها.
المَرتَبةُ الثَّانيةُ: مَشَقَّةٌ خَفيفةٌ لا وقعَ لها: كَأدنى وَجَعٍ في إصبَعِ، وأدنى صُداعٍ في الرَّأسِ، أو سوءِ مِزاجٍ خَفيفٍ، فهذه لا أثَرَ لها، ولا التِفاتَ إليها؛ لأنَّ تَحصيلَ مَصالحِ العِباداتِ أَولى مِن دَفعِ مِثلِ هذه المَفسَدةِ التي لا أثَرَ لها.
المَرتَبةُ الثَّالثةُ: مُتَوسِّطةٌ بَينَ هاتَينِ المَرتَبَتَينِ: فما دَنا مِنَ المَرتَبةِ العُليا أوجَبَ التَّخفيفَ، وما دَنا مِنَ الدُّنيا لم يوجِبْه، كالحُمَّى الخَفيفةِ، ووَجَعِ الضِّرسِ اليَسيرِ، وما تُرُدِّدَ في إلحاقِه بأيِّهما، اختُلِف فيه
[748] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/171)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 81)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 157). .
فوائِدُ: 1- مَن خُفِّف عنه للمَشَقَّةِ، لو تَكَلَّف وفعَل صَحَّ إذا لم يَخشَ الهَلاكَ أوِ الضَّرَرَ العَظيمَ، كالمَريضِ يَتَحَمَّلُ المَشَقَّةَ في حُضورِ الجُمُعةِ، والفقيرِ يَتَحَمَّلُ المَشَقَّةَ بحُضورِ عَرَفاتٍ، ويَسقُطُ عنه الفَرضُ
[749] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/173). .
2- تخفيفاتُ الشَّرعِ سَبعةُ أنواعٍ:
النَّوعُ الأوَّلُ: تَخفيفُ إسقاطٍ، كَإسقاطِ الجُمُعةِ والحَجِّ والعُمرةِ والجِهادِ بالأعذارِ.
النَّوعُ الثَّاني: تَخفيفُ تَنقيصٍ، كالقَصْرِ.
النَّوعُ الثَّالثُ: تَخفيفُ إبدالٍ، كَإبدالِ الوُضوء والغُسلِ بالتَّيَمُّمِ، والقيامِ في الصَّلاةِ بالقُعودِ والاضطِجاعِ أوِ الإيماءِ، والصِّيامِ بالإطعامِ.
النَّوعُ الرَّابعُ: تَخفيفُ تَقديمٍ، كالجَمعِ، وتَقديمِ الزَّكاةِ على الحَولِ، وزَكاةِ الفِطرِ في رَمَضانَ، والكَفَّارةِ على الحِنثِ.
النَّوعُ الخامِسُ: تَخفيفُ تَأخيرٍ، كالجَمعِ، وتَأخيرِ رَمَضانَ للمَريضِ والمُسافِرِ، وتَأخيرِ الصَّلاةِ في حَقِّ مُشتَغِلٍ بإنقاذِ غَريقٍ، أو نَحوِه مِنَ الأعذارِ.
النَّوعُ السَّادِسُ: تَخفيفُ تَرخيصٍ، كَصَلاةِ المُستَجمِرِ مَعَ بَقيَّةِ النَّجوِ، وشُربِ الخَمرِ للغُصَّةِ، وأكلِ النَّجاسةِ للتَّداوي، ونَحوِ ذلك.
النَّوعُ السَّابعُ: تَخفيفُ تَغييرٍ، كَتَغييرِ نَظمِ الصَّلاةِ للخَوفِ
[750] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/ 8- 9)، ((القواعد)) للحصني (1/ 318)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 82)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 72)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/ 271). .