موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: قاعِدةُ (الرُّخَصُ لا تُناطُ بالمَعاصي):


وهيَ مُعتَبَرةٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ [497] يُنظر: ((فتح العزيز)) للرافعي (4/ 648)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/ 135)، ((المنثور)) للزركشي (2/ 167). ، والحنابِلةِ [498] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/ 115)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/ 265). ، وقد خالف فيها الحَنَفيَّةُ [499] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (2/ 900). ، قال ابنُ المُلَقِّنِ: (الرُّخَصُ لا تُناطُ بالمَعاصي: وهيَ غَيرُ مُعتَبَرةٍ عِندَ الحَنَفيَّةِ) [500] ((الأشباه والنظائر)) (1/ 32). ويُنظر أيضًا: ((المغني)) لابن قدامة (3/ 115). .
ومُفادُ القاعِدةِ: أنَّ فِعلَ الرُّخَصِ مَتى تَوقَّفَ على وُجودِ شَيءٍ نُظِرَ في ذلك الشَّيءِ، فإن كانَ تَعاطيه في نَفسِه حَرامًا امتَنَعَ مَعَه فِعلُ الرُّخصةِ، وإلَّا فلا [501] يُنظر: ((حاشية البجيرمي على الخطيب)) (2/ 163). .
فلَو سافَرَ إنسانٌ لقَطعِ طَريقٍ أو لقَتلِ نَفسٍ حَرَّمَ اللهُ قَتلَها، أو لإرهابِ المُسلِمينَ والتَّمَرُّدِ عليهم، أو مِن أجلِ التَّهريبِ والِاحتيالِ، أو مِن أجلِ اللَّهوِ والعَبَثِ، فليس له أن يَتَرَخَّصَ في أيِّ حُكمٍ مِنَ الأحكامِ، فالسَّفَرُ نَفسُه مَعصيةٌ، والرُّخصةُ مَنوطةٌ به، أي: مُعَلَّقةٌ ومُرَتَّبةٌ عليه تَرَتُّبَ المُسَبَّبِ على السَّبَبِ، فلا يُباحُ له التَّرخُّصُ. أمَّا إذا سافَرَ سَفَرًا مُباحًا فشَرِبَ الخَمرَ في سَفَرِه فهو عاصٍ فيه، أي: مُرتَكِبُ المَعصيةِ في السَّفَرِ المُباحِ، فنَفسُ السَّفَرِ ليس مَعصيةً ولا آثِمًا به، فتُباحُ فيه الرُّخَصُ لأنَّها مَنوطةٌ بالسَّفَرِ، وهو في نَفسِه مُباحٌ، وبِهذا يَظهَرُ الفَرقُ بَينَ المَعصيةِ بالسَّفَرِ، والمَعصيةِ فيه [502] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/ 387)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 138- 139)، ((حاشية البجيرمي على الخطيب)) (2/ 163)، ((أثر الخلاف الفقهي في القواعد المختلف فيها)) لمحمود مشعل (ص: 378- 379). .
أثَرُ هذه القاعِدةِ في الخِلافِ الفِقهيِّ:
يَظهَرُ أثَرُ الخِلافِ في القاعِدةِ في عِدَّةِ أُمورٍ، مِنها ثُبوتُ رُخَصِ السَّفَرِ للمُسافِرِ العاصي بسَفَرِه:
فذَهَبَ الجُمهورُ إلى أنَّ السَّفَرَ الذي تَتَغَيَّرُ به الأحكامُ لا يَكونُ المُسافِرُ عاصيًا بسَفَرِه، قال الشَّافِعيُّ: (وليس لأحَدٍ سافَرَ في مَعصيةٍ أن يَقصُرَ ولا يَمسَحَ مَسحَ المُسافِرِ، فإن فعَلَ أعادَ، ولا تَخفيفَ على مَن سَفَرُه في مَعصيةٍ) [503] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/ 387). .
وقال ابنُ العَرَبيِّ: (لا يَستَبيحُ العاصي بسَفَرِه رُخَصَ السَّفَرِ، وقدِ اختَلَفَ العُلَماءُ في ذلك، والصَّحيحُ أنَّها لا تُباحُ له بحالٍ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعالى أباحَ ذلك عَونًا، والعاصي لا يَحِلُّ أن يُعانَ، فإن أرادَ الأكلَ فليَتُبْ ويَأكُلْ، وعَجَبًا مِمَّن يُبيحُ ذلك له مَعَ التَّمادي على المَعصيةِ، وما أظُنُّ أحَدًا يَقولُه، فإن قاله أحَدٌ فهو مُخطِئٌ قَطعًا) [504] ((أحكام القرآن)) (1/ 85). .
وقال ابنُ قُدامةَ: (ولا تُباحُ هذه الرُّخَصُ في سَفَرِ المَعصيةِ، كالإباقِ، وقَطعِ الطَّريقِ، والتِّجارةِ في الخَمرِ والمُحَرَّماتِ. نَصَّ عليه أحمَدُ. وهو مَفهومُ الخِرَقيِّ؛ لتَخصيصِه الواجِبَ والمُباحَ. وهذا قَولُ الشَّافِعيِّ) [505] ((المغني)) (3/ 115). .
وخالَفَ الحَنَفيَّةُ فأجازوها، قال الكاسانيُّ: (ويَستَوي في المِقدارِ المَفروضِ على المُسافِرِ مِنَ الصَّلاةِ سَفَرُ الطَّاعةِ مِنَ الحَجِّ والجِهادِ، وطَلَبِ العِلمِ، وسَفَرُ المُباحِ، كَسَفَرِ التِّجارةِ ونَحوِه، وسَفَرُ المَعصيةِ، كَقَطعِ الطَّريقِ، والبَغيِ، وهذا عِندَنا. وقال الشَّافِعيُّ: لا تَثبُتُ رُخصةُ القَصرِ في سَفَرِ المَعصيةِ) [506] ((بدائع الصنائع)) (1/ 93). .

انظر أيضا: