الفَرعُ الثَّاني: الجَهلُ بأحكامِ الشَّرعِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ العِلمِ لا يُسقِطُ أحكامَها عَنِ الجاهلِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الجَهلُ بأحكامِ الشَّرعِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ العِلمِ لا يُسقِطُ أحكامَها عَنِ الجاهلِ"
[5853] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (4/1796)، ((التعليقة الكبيرة من الاعتكاف للبيوع)) لأبي يعلى (1/371)، ((المغني)) لابن قدامة (2/346). ، وصيغةِ: "العالِمُ والجاهلُ المُتَمَكِّنُ مِنَ العِلمِ سَواءٌ في التَّكليفِ"
[5854] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (1/ 56). ، وصيغةِ: "لا عُذرَ في الجَهلِ بالحُكمِ ما أمكَنَ التَّعَلُّمُ"
[5855] يُنظر: ((القواعد)) للمقري (2/ 412). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.مَن جَهلَ حُكمًا شَرعيًّا، وكان بإمكانِه أن يَتَعَلَّمَ هذا الحُكمَ أو يَحصُلَ على المَعرِفةِ به، فلا يُعَدُّ جَهلُه مُبَرِّرًا لإسقاطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ المُتَعَلِّقةِ بذلك الحُكمِ عَنه، فالشَّخصُ الذي يُقَصِّرُ في تَعَلُّمِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ أو يَتَهاونُ في السَّعيِ للعِلمِ بها لا يُمكِنُه الاحتِجاجُ بالجَهلِ لتَجَنُّبِ المَسؤوليَّةِ أو رَفعِ العُقوبةِ عَنه، أمَّا مَن لَم يَتَمَكَّنْ مِنَ العِلمِ لبُعدِه عَنِ العُلَماءِ أو قُربِ عَهدِه بالإسلامِ ونَحوِه مِن أسبابٍ، فيُعذَرُ بجَهلِه، فالجَهلُ الذي يَتَعَذَّرُ الاحتِرازُ عَنه عادةً يُعفى عَنه، وما لا يَتَعَذَّرُ الاحتِرازُ عَنه ولا يَشُقُّ لا يُعفى عنه
[5856] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (4/1796)، ((التعليقة الكبيرة من الاعتكاف للبيوع)) لأبي يعلى (1/371)، ((الفروق)) للقرافي (2/150،149)، ((المغني)) لابن قدامة (2/346). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والقواعدُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:فعَن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخلَ المَسجِدَ فدَخل رَجُلٌ فصَلَّى، فسَلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَدَّ وقال: ارجِعْ فصَلِّ فإنَّك لم تُصَلِّ، فرَجَعَ يُصَلِّي كَما صَلَّى، ثُمَّ جاءَ فسَلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ارجِعْ فصَلِّ فإنَّك لم تُصَلِّ، ثَلاثًا، فقال: والذي بَعَثَك بالحَقِّ ما أُحسِنُ غَيرَه، فعَلِّمْني، فقال: إذا قُمتَ إلى الصَّلاةِ فكَبِّرْ، ثُمَّ اقرَأْ ما تَيَسَّرَ مَعَك مِنَ القُرآنِ، ثُمَّ اركَعْ حتَّى تَطمَئِنَّ راكِعًا، ثُمَّ ارفَعْ حتَّى تَعتَدِلَ قائِمًا، ثُمَّ اسجُدْ حتَّى تَطمَئِنَّ ساجِدًا، ثُمَّ ارفَعْ حتَّى تَطمَئِنَّ جالِسًا، وافعَلْ ذلك في صَلاتِك كُلِّها )) [5857] أخرجه البخاري (757) واللفظ له، ومسلم (397). وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ الذي لَم يَطمَئِنَّ في صَلاتِه بإعادَتِها، ولَم يَعذِرْه بجَهلِه؛ لتَمَكُّنِه مِنَ العِلمِ بمَعرِفةِ صَلاتِه
[5858] يُنظر: ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) لمجموعة من العلماء (4/ 384). .
2- مِنَ القواعدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الجَهلُ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ إنَّما يَكونُ عُذرًا إذا لَم تَقَعْ حاجةٌ إليها).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ. تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- لا يُعذَرُ في تَركِ التَّرتيبِ بَينَ الصَّلَواتِ بالجَهلِ بوُجوبِه، وقال زُفَرُ مِنَ الحَنَفيَّةِ: يُعذَرُ؛ لأنَّه يَسقُطُ بالنِّسيانِ، فيَسقُطُ بالجَهلِ، كاللُّبسِ والطِّيبِ والإحرامِ، واستَدَلَّ الحَنابِلةُ بأنَّه تَرتيبٌ واجِبٌ في الصَّلاةِ، فلَم يَسقُطْ بالجَهلِ كالتَّرتيبِ في المَجموعَتَينِ والرُّكوعِ والسُّجودِ، ولأنَّ الجَهلَ بأحكامِ الشَّرعِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ العِلمِ لا يُسقِطُ أحكامَها
[5859] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/346). .
2- مَن أكَلَ في نَهارِ رَمَضانَ جاهلًا بتَحريمِ الأكلِ في الصَّومِ فإنَّ صَومَه يَبطُلُ؛ لأنَّ الجَهلَ بأحكامِ الشَّرعِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ العِلمِ لا يُسقِطُ أحكامَها
[5860] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/346). .
3- تارِكُ الصَّلاةِ جُحودًا مُرتَدٌّ إن لَم يُعذَرْ بجَهلِه بأن كان بَينَ أظهرِنا بحَيثُ لا يَخفى عليه؛ لأنَّ كَونَه كذلك صَيَّرَه في حُكمِ العالِمِ فيَكونُ مُرتَدًّا، وإلَّا بأن كان قَريبَ العَهدِ بالإسلامِ ونَحوِه كَنَشئِه بباديةٍ بَعيدةٍ عَنِ العُلَماءِ عُذِرَ بجَهلِه ولا يَكونُ مُرتَدًّا
[5861] يُنظر: ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (2/73). .
4- الجاهلُ مِن مُسالِمةِ أهلِ الذِّمَّةِ، أوِ القَريبُ العَهدِ بالإسلامِ مِن غَيرِهم إن صَلَّى المَغرِبَ أيَّامًا أربَعًا أربَعًا؛ فإنَّه يُعيدُ تلك الصَّلَواتِ كُلَّها في الوقتِ عِندَ المالِكيَّةِ؛ لأنَّ الجاهلَ لا يُعذَرُ بجَهلِه في الصَّلاةِ، فهو كالمُتَعَمِّدِ العالِمِ
[5862] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (2/75). .
5- مَن أكَلَ مالَ يَتيمٍ جَهلًا ضَمِنَه، ولا يُعذَرُ بجَهلِه
[5863] يُنظر: ((تهذيب الفروق)) لمحمد علي حسين (2/165). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.تنبيهٌ:قال الكاسانيُّ: (حَقيقةُ العِلمِ ليست بشَرطٍ في بناءِ الأحكامِ عليه، بَلِ المُعتَبَرُ هو سَبَبُ حُصولِ العِلمِ والطَّريقُ الموصِلُ إلَيه، ويُقامُ ذلك مَقامَ حَقيقةِ العِلمِ، كما يُقامُ سَبَبُ القُدرةِ مَقامَ حَقيقةِ القُدرةِ، وطَريقُ حُصولِ العِلمِ هَهنا في يَدِه، وهو السُّؤالُ والفَحصُ عَن حَقيقةِ الحالِ، فإذا لَم يَفعَلْ فقد قَصَّرَ)
[5864] ((بدائع الصنائع)) (4/50). .