المَطلَبُ الثَّاني: مِن القَواعِدِ المُندَرِجةِ تَحتَ قاعِدةِ تَصَرُّفُ المَريضِ فيما يَحتَمِلُ النَّقضَ بَعدَ نُفوذِه يَكونُ مَحكومًا بصِحَّتِه ثُمَّ يُنقَضُ بَعدَ مَوتِه ما يَتَعَذَّرُ تَنفيذُه: تَصَرُّفُ المَريضِ فيما يَكونُ فيه إيصالُ النَّفعِ إلى وارِثِه باطِلٌ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "تَصَرُّفُ المَريضِ فيما يَكونُ فيه إيصالُ النَّفعِ إلى وارِثِه باطِلٌ"
[5830] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/227). . وصيغةِ: "تَبَرُّعُ الوالِدِ على ولَدِه في مَرَضِه باطِلٌ، وكَذلك كُلُّ مَن ضَمِنَ عَن وارِثِه أو لوارِثِه ثُمَّ ماتَ فضَمانُه باطِلٌ"
[5831] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/ 228). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ. التَّصَرُّفاتُ التي تَصدُرُ مِنَ المَريضِ مَرَضَ المَوتِ التي يَتَرَتَّبُ عليها نَفعٌ لأحَدِ الورَثةِ فإنَّها تَكونُ باطِلةً وغَيرَ نافِذةٍ شَرعًا، فإذا خَصَّصَ المَريضُ في مَرَضِ مَوتِه أحَدَ الورَثةِ بنَفعٍ أو أمرٍ يَعودُ عليه بالنَّفعِ فإنَّ هذا التَّصَرُّفَ مُلغًى ولا يُعتَدُّ به
[5832] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/227). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ المَعقولُ:
وهو أنَّ المَوتَ لَمَّا كان عِلَّةً لخِلافةِ الورَثةِ والغُرَماءِ في المالِ -لأنَّ المَوتَ يُبطِلُ أهليَّةَ المِلكِ فيَخلُفُه أقرَبُ النَّاسِ إلَيه، والذِّمَّةُ تَخرَبُ بالمَوتِ، فيَصيرُ المالُ الذي هو مَحَلُّ قَضاءِ الدَّينِ مَشغولًا بالدَّينِ فيَخلُفُه الغَريمُ في المالِ- كان المَرَضُ مِن أسبابِ تَعَلُّقِ حَقِّ الوارِثِ والغَريمِ بمالِه في الحالِ؛ لأنَّ الحُكمَ يَثبُتُ بقدرِ دَليلِه، ولأنَّ التَّعَلُّقَ لَمَّا ثَبَتَ بالمَوتِ حَقيقةً استَنَدَ هذا الحُكمُ إلى أوَّلِ المَرَضِ كذلك؛ لأنَّ الحُكمَ يَستَنِدُ إلى أوَّلِ السَّبَبِ.
ولَمَّا ثَبَتَ أنَّ مَرَضَ المَوتِ مِن أسبابِ تَعَلُّقِ حَقِّ الورَثةِ بالمالِ، وكانتِ الوصيَّةُ للوارِثِ لا تَصِحُّ؛ لأنَّ الشَّرعَ لَمَّا تَولَّى إيصاءَ الورَثةِ بنَفسِه ونَسَخَ إيصاءَه لَهم، بَطَلَ ذلك مِن كُلِّ وجهٍ صورةً ومَعنًى وحَقيقةً وشُبهةً؛ لأنَّ الشَّرعَ لَمَّا حَجَرَه عَن إيصالِ النَّفعِ إلى وارِثِه مِن مالِه في هذه الحالةِ صارَت صورةُ إيصالِ النَّفعِ ومَعناه وحَقيقَتُه وشُبهَتُه سَواءً؛ لأنَّ الصُّورةَ والشُّبهةَ مُلحَقَتانِ بالحَقيقةِ في مَوضِعِ التَّحريمِ
[5833] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/307-309). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ. مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعدةِ:
1- لَو ضَمِنَ الصَّداقَ للمَرأةِ والِدُها بإذنِ زَوجِها كان الضَّمانُ صَحيحًا إن كان الوالِدُ صَحيحًا غَيرَ مَريضٍ، فإذا أدَّاه كان له أن يَرجِعَ على الزَّوجِ لضَمانِه بإذنِه، فإن كان هذا الضَّمانُ في مَرَضِ الأبِ وماتَ مِنه فهو باطِلٌ؛ لأنَّه قَصَدَ إيصالَ النَّفعِ إلى وارِثِه، وتَصَرُّفُ المَريضِ فيما يَكونُ فيه إيصالُ النَّفعِ إلى وارِثِه باطِلٌ
[5834] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/227). .
2- إقرارُ المَريضِ مَرَضَ المَوتِ لبَعضِ الورَثةِ لا يَصِحُّ عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ فيه تُهمةَ الكَذِبِ؛ إذ مِنَ الجائِزِ أن يَكونَ غَرَضُه في هذا الإقرارِ إيصالَ مِقدارِ المالِ المُقَرِّ به إلى الوارِثِ بغَيرِ عِوضٍ، فيَكونُ وصيَّةً مِن حَيثُ المَعنى وإن كان إقرارًا صورةً، فيَكونُ حَرامًا؛ لأنَّ شُبهةَ الحَرامِ حَرامٌ
[5835] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/309). .
3- إذا باعَ المَريضُ فِضَّةً جَيِّدةً برَديئةٍ مِن وارِثِه فإنَّه لا يَجوزُ عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ فيه شُبهةَ الوصيَّةِ بالجَودةِ؛ إذ عُدولُه عَن خِلافِ الجِنسِ إلى الجِنسِ يَدُلُّ على أنَّ غَرَضَه إيصالُ مَنفَعةِ الجَودةِ إلَيه؛ فإنَّها لا تَتَقَوَّمُ عِندَ المُقابَلةِ بالجِنسِ، فقُوِّمَتِ الجَودةُ في حَقِّه دَفعًا للضَّرَرِ عَنِ الورَثةِ؛ فإنَّ حَقَّهم تَعَلَّقَ بالأصلِ والوصفِ جَميعًا
[5836] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/310). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش