المَبحَثُ الثَّالِثُ: الجُنونُ سَبَبٌ لزَوالِ التَّكاليفِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الجُنونُ سَبَبٌ لزَوالِ التَّكاليفِ"
[5726] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبدالسلام (2/6). ، وصيغةِ: "القَلَمُ مَرفوعٌ عَنِ المَجنونِ"
[5727] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (3/111)، ((الكافي)) لابن عبد البر (1/331). ، وصيغةِ: "المَجنونُ غَيرُ مُكَلَّفٍ"
[5728] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (4/199). ، وصيغةِ: "فِعلُ المَجنونِ ليس بفِعلٍ"
[5729] يُنظر: ((المدونة)) لسحنون (2/ 436). ، وصيغةِ: "فِعلُ المَجنونِ كَلا فِعلٍ"
[5730] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/ 495). ، وصيغةِ: "فِعلُ المَجنونِ لا حُكمَ له"
[5731] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (4/ 382). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.الشَّخصُ المُصابُ بالجُنونِ لا يَكونُ مُكَلَّفًا بالعِباداتِ أوِ الالتِزاماتِ الشَّرعيَّةِ؛ وذلك بسَبَبِ فِقدانِ الأهليَّةِ العَقليَّةِ التي تُعتَبَرُ شَرطًا أساسيًّا لقيامِ التَّكليفِ الشَّرعيِّ، فالجُنونُ يَمنَعُ التَّكليفَ، وإذا طَرَأ على المُكَلَّفِ رَفَعَ تَكليفَه؛ لأنَّ التَّكليفَ أساسُه بَقاءُ العَقلِ
[5732] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (3/111)، ((الكافي)) لابن عبد البر (1/331)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبدالسلام (2/6)، ((البيان)) للعمراني (4/199). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ: فعَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((رُفِعَ القَلَمُ عَن ثَلاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَستَيقِظَ، وعَنِ الصَّغيرِ حَتَّى يَكبَرَ، وعَنِ المَجنونِ حَتَّى يَعقِلَ أو يُفيقَ )) [5733] أخرجه النسائي (3432) واللَّفظُ له، وابن ماجه (2041)، وأحمد (24694). وأخرجه أبو داود (4398) بلفظِ: (وعن المبتلَى حتى يبرَأَ) بدَلَ المجنون، والحاكم (2350)، والبيهقي (11453) بلفظِ: (وعن المعتوهِ حتى يُفيقَ)، من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. صحَّحه الحاكم، وقال: على شرط مسلم، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/392)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3432). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ المَجنونَ مَرفوعٌ عَنه التَّكليفُ حَتَّى يَعقِلَ ويَبرَأَ مِن جُنونِه، وهو مَضمونُ القاعِدةِ
[5734] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/50)، ((إبراز الحكم من حديث رفع القلم)) لتقي الدين السبكي (ص: 52، 95). .
2- مِنَ الإجماعِ:ومِمَّن نَقَلَه: ابنُ بَزيزةَ
[5735] قال: (المَجنونُ غَيرُ مُكَلَّفٍ إجماعًا). ((روضة المستبين)) (2/1274). ، والزَّركَشيُّ
[5736] قال: (المَجنونُ ليس بمُكَلَّفٍ إجماعًا، ويَستَحيلُ تَكليفُه؛ لأنَّه لا يَعقِلُ الأمرَ والنَّهيَ). ((البحر المحيط)) (2/62). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ. تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- المَجنونُ لا يَصلُحُ أن يَكونَ مُفتيًا؛ لأنَّ المُفتيَ لا بُدَّ أن يَكونَ عاقِلًا؛ لأنَّ القَلَمَ مَرفوعٌ عَنِ المَجنونِ
[5737] يُنظر: ((الفقيه والمتفقهـ)) للخطيب البغدادي (2/330). .
2- لَو قَتَلَ المَجنونُ صَيدًا ففيه قَولانِ: أحَدُهما: أنَّ عليه الفِديةَ؛ لأنَّ ضَمانَ الصَّيدِ يَجري مَجرى حُقوقِ الآدَميِّينَ، والثَّاني: لا فِديةَ عليه؛ لأنَّه إنَّما مُنِعَ مِن قَتلِه للتَّعَبُّدِ، والمَجنونُ ليس مِن أهلِ التَّعَبُّدِ
[5738] يُنظر: ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (4/199). .
3- إذا جَنى المَجنونُ جِنايةً فجِنايَتُه هَدَرٌ، ولا قَوَدَ عليه فيما يَجني
[5739] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/50). .
4- لَو أقَرَّ المَجنونُ بشَيءٍ لا يَصِحُّ إقرارُه
[5740] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (5/61). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.تنبيهاتٌ:1- وُجوبُ الغَراماتِ بالإتلافِ على المَجنونِ مِن خِطابِ الوضعِ لا التَّكليفِ [5741] يُنظر: ((التمهيد)) (ص: 49)، ((مطالع الدقائق)) (1/ 165)، كلاهما للإسنوي، ((الموافقات)) للشاطبي (1/ 237). :والقَولُ بثُبوتِ الضَّمانِ على المَجانينِ مِن غَيرِ عِلمِهم ولا قُدرَتِهم على التَّحَرُّزِ مِنَ الإتلافِ؛ لكَونِه مِن خِطابِ الوضعِ، بمَعنى أنَّ اللهَ تَعالى شَرَعَ لعِبادِه: إذا وقَعَ هذا الإتلافُ مَثَلًا فاعلَموا أنِّي حَكَمتُ عليه بالضَّمانِ
[5742] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/ 78). .
2- ما يَتَعَلَّقُ بتَركِ التَّكليفِ بالصَّلاةِ حالَ جُنونِه:قال ابنُ قُدامةَ: (والمَجنونُ غَيرُ مُكَلَّفٍ، ولا يَلزَمُه قَضاءُ ما تَرَكَ في حالِ جُنونِه، إلَّا أن يُفيقَ في وقتِ الصَّلاةِ، فيَصيرُ كالصَّبيِّ يَبلُغُ. ولا نَعلَمُ في ذلك خِلافًا، وقد قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "رُفِعَ القَلَمُ عَن ثَلاثةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَستَيقِظَ، وعَنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَشِبَّ، وعَنِ المَعتوهِ حَتَّى يَعقِلَ"... ولأنَّ مُدَّتَه تَطولُ غالِبًا، فوُجوبُ القَضاءِ عليه يَشُقُّ، فعُفيَ عنه
[5743] ((المغني)) (2/ 50). .
وقال ابنُ نُجَيمٍ: (وسَواءٌ كانتِ الفَوائِتُ كَثيرةً أو قَليلةً فلا قَضاءً على مَجنونٍ حالةَ جُنونِه ما فاتَه في حالةِ عَقلِه، كما لا قَضاءَ عليه في حالةِ عَقلِه لما فاتَه حالةَ جُنونِهـ)
[5744] ((البحر الرائق)) (2/ 86). .
وذَكَرَ السَّرَخسيُّ قاعِدةً تَتَعَلَّقُ بها، وهيَ: (الجُنونُ إذا وُجِدَ مَرَّةً فهو لازِمٌ أبَدًا)
[5745] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) (ص: 2026). .
أي أنَّ الجُنونَ إذا ثَبَتَ لشَخصٍ وحُكِمَ عليه به فإنَّ هذا الحُكمَ يَظَلُّ ثابِتًا وكَأنَّه عَيبٌ لازِمٌ، إذا وُجِدَ مَرَّةً لا يَرتَفِعُ
[5746] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 2026). .
ومِنَ الأمثِلةِ على ذلك:
1- لَو أنَّ رَجُلًا عُرِفَ أنَّه جُنَّ مَرَّةً فقالتِ امرَأتُه: إنَّه طَلَّقَني ثَلاثًا، فقال الرَّجُلُ: عاودَني الجُنونُ البارِحةَ فقُلتُ ذلك وأنا مَجنونٌ، فالقَولُ قَولُه مَعَ يَمينِه؛ لأنَّ الجُنونَ إذا وُجِدَ مَرَّةً فهو لازِمٌ أبَدًا
[5747] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 2026). .
2- لَو أنَّ رَجُلًا عُرِفَ أنَّه جُنَّ مَرَّةً فقالتِ امرَأتُه: إنَّه ارتَدَّ، فقال الرَّجُلُ: عاودَني الجُنونُ البارِحةَ فقُلتُ ذلك وأنا مَجنونٌ، فالقَولُ قَولُه مَعَ يَمينِه؛ لأنَّ الجُنونَ إذا وُجِدَ مَرَّةً فهو لازِمٌ أبَدًا
[5748] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 2026). .