الفَرعُ الأوَّلُ: كُلُّ عَقدٍ كانتِ المُدَّةُ رُكنًا فيه لا يَكونُ إلَّا مُؤَقَّتًا
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ عَقدٍ كانتِ المُدَّةُ رُكنًا فيه لا يَكونُ إلَّا مُؤَقَّتًا"
[5623] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/240). ، وصيغةِ: "كُلُّ عَقدٍ كانتِ المُدَّةُ رُكنًا فيه لا يَكونُ إلَّا مُؤَقَّتًا كالإجارةِ والمُساقاةِ والهُدنةِ، وكُلُّ عَقدٍ لا يَكونُ كذلك فلا يَكونُ إلَّا مُطلَقًا"
[5624] يُنظر: ((التدريب)) للبلقيني (2/11)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 282). ، وصيغةِ: "تَوقيتُ المِلكِ بالمُدَّةِ لا يَكونُ إلَّا في المَنافِعِ التي تحدُثُ في المُدَّةِ"
[5625] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/36). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.المُرادُ بالمُدَّةِ هنا: المُدَّةُ المُستَقبَلةُ التي يَستَمِرُّ فيها تَنفيذُ الالتِزامِ حَتَّى انقِضائِها، وذلك كما في العُقودِ المُؤَقَّتةِ؛ لأنَّ المُدَّةَ هيَ الضَّابطةُ للمَعقودِ عليه المُعَرِّفةُ له، فوجَبَ أن تَكونَ مَعلومةً، كعَدَدِ المَكيلاتِ فيما بِيعَ بالكَيلِ، وذلك كما في الإجارةِ، فإنَّها لا تَصِحُّ إلَّا على مُدَّةٍ مَعلومةٍ، أو على عَمَلٍ مُعَيَّنٍ يَتِمُّ في زَمَنٍ، وبانتِهائِها يَنتَهي عَقدُ الإجارةِ.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العَقدَ الذي تَكونُ المُدَّةُ رُكنًا فيه بحَيثُ إذا انتَهَت هذه المُدَّةُ بَطَلَ العَقدُ، فإنَّه لا يَكونُ إلَّا مُؤَقَّتًا، كالإجارةِ والمُساقاةِ والهُدنةِ، بخِلافِ العُقودِ التي لا تَكونُ المُدَّةُ رُكنًا فيها، فكُلُّ عَقدٍ لا يَكونُ كذلك فلا يَكونُ إلَّا مُطلَقًا، وإذا كان العَقدُ مُؤَقَّتًا وجَبَ الالتِزامُ بالمُدَّةِ المُتَّفَقِ عليها؛ وفاءً بالشَّرطِ
[5626] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/8)، ((المنثور)) للزركشي (1/240)، ((التدريب)) للبلقيني (2/11)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (8/357)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (2/7). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (كُلُّ ما يَصِحُّ تَأبيدُه مِن عُقودِ المُعاوَضاتِ فلا يَصِحُّ تَوقيتُهـ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ العُقودَ التي تَكونُ المُدَّةُ رُكنًا فيها ليسَت مِمَّا يَصِحُّ تَأبيدُه، ولا يَصِحُّ فيها إلَّا التَّوقيتُ؛ فإنَّ تَوقيتَ المِلكِ بالمُدَّةِ لا يَكونُ إلَّا في المَنافِعِ التي تَحدُثُ في المُدَّةِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ الإجماعِ:فقد حُكيَ الإجماعُ على اشتِراطِ المَدَّةِ في بَعضِ صورِ القاعِدةِ، وهيَ صورةُ الإجارةِ، ومِمَّن حَكاه: الجَصَّاصُ
[5627] قال: (لا خِلافَ أنَّ الإجاراتِ لا تَجوزُ إلَّا على مُدَّةٍ مَعلومةٍ). ((أحكام القرآن)) (3/579). ، وابنُ قُدامةَ
[5628] قال: (الإجارةُ إذا وقَعَت على مُدَّةٍ يَجِبُ أن تَكونَ مَعلومةً كشَهرٍ وسَنةٍ. ولا خِلافَ في هذا نَعلَمُه؛ لأنَّ المُدَّةَ هيَ الضَّابطةُ للمَعقودِ عليه المُعَرِّفةُ له، فوجَبَ أن تَكونَ مَعلومةً، كعَدَدِ المَكيلاتِ فيما بِيعَ بالكَيلِ). ((المغني)) (8/8). ، والمرداويُّ
[5629] قال في الإجارةِ: (يُشتَرَطُ كَونُ المُدَّةِ مَعلومةً بلا نِزاعٍ في الجُملةِ). ((الإنصاف)) (14/352). .
2- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ما يَصِحُّ تَأبيدُه مِن عُقودِ المُعاوَضاتِ فلا يَصِحُّ تَوقيتُهـ)؛ حَيثُ يُفهَمُ مِنها بمَفهومِ المُخالَفةِ أنَّ ما لا يَصِحُّ تَأبيدُه مِنَ العُقودِ لا يَكونُ إلَّا مُؤَقَّتًا.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- عَقدُ الإجارةِ مِنَ العُقودِ المُؤَقَّتةِ، فالتَّأقيتُ شَرطُ جَوازِها، والتَّأبيدُ يُبطِلُها، فتَجوزُ مُؤَقَّتةً ولا تَجوزُ مُؤَبَّدةً؛ لأنَّ المَعقودَ عليه لا يَصيرُ مَعلومَ القَدرِ بدونِه، فتَركُ بَيانِه يُفضي إلى المُنازَعةِ، فإذا وقَعَتِ الإجارةُ على مُدَّةٍ مَعلومةٍ بأُجرةٍ مَعلومةٍ، فقد مَلَكَ المُستَأجِرُ المَنافِعَ، ومَلَكَت عليه الأُجرةُ كامِلةً
[5630] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 2118)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/181)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (7/621)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (4/219). .
2- يُشتَرَطُ في عَقدِ المُزارَعةِ أن تَكونَ بمُدَّةٍ مَعلومةٍ، فلا تَصِحُّ المُزارَعةُ إلَّا ببَيانِ المُدَّةِ، وأن تَكونَ مَعلومةً، وأن تَكونَ زَمَنًا يَتَمَكَّنُ فيه مِنَ الزِّراعةِ، فإن كانت زَمَنًا لا يَتَمَكَّنُ فيه مِنَ الزِّراعةِ فسَدَ العَقدُ، وأن تَكونَ مُدَّةً يَعيشُ فيها أحَدُهما غالبًا
[5631] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (36/289). .
3- الشَّرِكةُ مَبنيَّةٌ على الوَكالةِ، فكَما يَجوزُ تَوقيتُ الوَكالةِ يَجوزُ تَوقيتُ الشَّرِكةِ، وبانقِضاءِ الوقتِ الذي عُيِّنَ للشَّرِكةِ تَنفسِخُ الشَّرِكةُ، وكُلُّ مالٍ يَشتَريه أحَدُ الشَّريكَينِ بَعدَ ذلك لا يَكونُ مُشتَرَكًا، بَل يَكونُ له خاصَّةً
[5632] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (3/370). .
4- يَجِبُ على المُقاوِلِ إنجازُ العَمَلِ بالطَّريقةِ المُتَّفَقِ عليها في عَقدِ المُقاوَلةِ، وطِبقًا للشُّروطِ الصَّحيحةِ الوارِدةِ في العَقدِ، وإذا كان العَقدُ مُؤَقَّتًا وجَبَ الالتِزامُ بالمُدَّةِ المُتَّفَقِ عليها؛ وفاءً بالشَّرطِ؛ لأنَّ رَبَّ العَمَلِ ما ضَرَبَ الأجَلَ إلَّا ولَه فيه مَصلَحةٌ، فلا يَحِقُّ للمُقاوِلِ تَفويتُها عليه. وإذا لم يُذكَرِ الوقتُ في إنجازِ مِثلِ هذا العَمَلِ كان على المُقاوِلِ الالتِزامُ بتَنفيذِ العَمَلِ في المُدَّةِ المَعقولةِ التي تَسمَحُ بإنجازِه نَظَرًا لطَبيعَتِه ومِقدارِ ما يَقتَضيه مِن دِقَّةٍ، وحَسَبَ عُرفِ الحِرفةِ، ولا يَحِقُّ له التَّأخيرُ بحُجَّةِ أنَّ الوقتَ لم يُتَعَرَّضْ له في العَقدِ
[5633] يُنظر: ((المعاملات المالية)) للدبيان (8/357). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها: عَقدُ الرَّهنِ؛ فهو مِنَ العُقودِ التي لا تَقبَلُ التَّأقيتَ، ويَصِحُّ مَعَ الإبهامِ، فإذا شُرِط تَوقيتُ الرَّهنِ فهو شَرطٌ فاسِدٌ؛ لأنَّه شَرطٌ يُنافي مُقتَضى عَقدِ الرَّهنِ
[5634] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3603)، ((المغني)) لابن قدامة (6/506). .