موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّاني: ما لزِمَ مِنَ العُقودِ لا يَبطُلُ بالمَوتِ، وما لا يَلزَمُ يَبطُلُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما لزِمَ مِنَ العُقودِ لا يَبطُلُ بالمَوتِ، وما لا يَلزَمُ يَبطُلُ" [5635] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (18/172). ، وصيغةِ: "اللَّازِمُ مِنَ الطَّرَفينِ لا يَثبُتُ فيه خيارٌ مُؤَبَّدٌ، ولا يَنفسِخُ بمَوتِهما أو بمَوتِ أحَدِهما أو بجُنونِه أو إغمائِه، والجائِزُ بخِلافِه" [5636] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/401). ، وصيغةِ: "العَقدُ اللَّازِمُ لا يَبطُلُ بالمَوتِ" [5637] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (6/23)، ((تكملة المطيعي على المجموع)) (13/193). ، وصيغةِ: "العُقودُ اللَّازِمةُ لا تَنفسِخُ بمَوتِ أحَدِ المُتَعاقِدَينِ" [5638] يُنظر: ((حاشية الخلوتي على منتهى الإرادات)) (4/203). ، وصيغةِ: "العَقدُ اللَّازِمُ لا يَنفسِخُ بالمَوتِ" [5639] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/19). ، وصيغةِ: "العُقودُ الجائِزةُ -دونَ اللَّازِمةِ- تَبطُلُ بمَوتِ عاقِدِها" [5640] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/329). ، وصيغةِ: "العُقودُ الجائِزةُ تَبطُلُ بالمَوتِ والجُنونِ" [5641] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/464)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (20/106)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (9/42)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (11/239). ، وصيغةِ: "العُقودُ الجائِزةُ تَرتَفِعُ بمَوتِ المُتَعاقِدينِ" [5642] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (4/478). ، وصيغةِ: "العُقودُ الجائِزةُ تَنفسِخُ بمَوتِ أحَدِ المُتَعاقِدينِ في أثناءِ الجَوازِ" [5643] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (6/79). ، وصيغةِ: "العُقودُ الجائِزةُ تَنفسِخُ بالمَوتِ" [5644] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/16). ، وصيغةِ: "ما لم يَلزَمْ مِنَ العُقودِ يَبطُلُ بالمَوتِ" [5645] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (8/33). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
اللُّزومُ: هو أن يَكونَ الفِعلُ بحَيثُ لا يَستَطيعُ أحَدُ المُتَعاقِدَينِ رَفعَه.
والعَقدُ اللَّازِمُ هو: ما لا يَكونُ لأحَدِ العاقِدينِ فيه حَقُّ الفسخِ دونَ رِضا الآخَرِ. ومُقابلُه: العَقدُ الجائِزُ أو غَيرُ اللَّازِمِ: وهو ما يَكونُ لأحَدِ العاقِدينِ فيه حَقُّ الفسخِ بدونِ رِضا الطَّرَفِ الثَّاني.
ويَنقَسِمُ العَقدُ باعتِبارِ الجَوازِ واللُّزومِ إلى أقسامٍ:
1- لازِمٌ مِنَ الطَّرَفينِ قَطعًا، كالبَيعِ والإجارةِ والسَّلَمِ والصُّلحِ والحَوالةِ والمُساقاةِ، والهبةِ للأجنَبيِّ بَعدَ القَبضِ، والخُلعِ.
2- لازِمٌ فيهما في الأصَحِّ، وهيَ المُسابَقةُ.
3- جائِزٌ مِنَ الطَّرَفينِ قَطعًا، كالشَّرِكةِ والوَكالةِ، والمُضارَبةِ والوصيَّةِ، والعاريَّةِ والوديعةِ، والقَرضِ والجَعالةِ قَبلَ فراغِ العَمَلِ.
4- لازِمٌ مِن أحَدِ الطَّرَفينِ جائِزٌ مِنَ الآخَرِ قَطعًا، كالرَّهنِ؛ فإنَّه لازِمٌ مِن جِهةِ الرَّاهنِ بَعدَ القَبضِ، جائِزٌ مِن جِهةِ المُرتَهِنِ، والضَّمانُ والكَفالةُ جائِزانِ مِن جِهةِ المَضمونِ له دونَ الضَّامِنِ.
وتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العَقدَ اللَّازِمَ مِنَ الطَّرَفينِ لا يَثبُتُ فيه خيارٌ مُؤَبَّدٌ، ولا يَنفسِخُ بمَوتِهما أو بمَوتِ أحَدِهما أو بجُنونِه أو إغمائِه، والجائِزُ بخِلافِه، فما لزِمَ مِنَ العُقودِ لا يَبطُلُ بالمَوتِ، فإذا فسَدَت لم يَلزَمْ، وما لا يَلزَمُ مِنَ العُقودِ يَبطُلُ بالمَوتِ، كالوَكالةِ والمُضارَبةِ. وإنَّما لا تَبطُلُ العُقودُ اللَّازِمةُ بمَوتِ المُتَعاقِدينِ؛ لأنَّ الحُكمَ بالانفِساخِ ليس بمَوتِ أحَدِ المُتَعاقِدَينِ، بَل لتَلَفِ العَينِ المَعقودِ عليها، كالإجارةِ؛ فإنَّها عَقدٌ لازِمٌ مِنَ الطَّرَفينِ، وتَنفسِخُ بتَلَفِ العَينِ المُؤَجَّرةِ أو مَوتِها [5646] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (18/172)، ((المنثور)) للزركشي (2/398)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 275)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/476)، ((حاشية الخلوتي على منتهى الإرادات)) (4/203)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/110)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (30/228). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (كُلُّ ما يَصِحُّ تَأبيدُه مِن عُقودِ المُعاوَضاتِ فلا يَصِحُّ تَوقيتُهـ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ العُقودَ اللَّازِمةَ التي يَصِحُّ تَأبيدُها لا يُبطِلُها المَوتُ؛ لأنَّها ليسَت مُؤَقَّتةً بوقتٍ مُعَيَّنٍ، ولا بمَوتِ أحَد المُتَعاقِدينِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (كُلُّ ما يَصِحُّ تَأبيدُه مِن عُقودِ المُعاوَضاتِ فلا يَصِحُّ تَوقيتُهـ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
أوَّلًا: أمثِلةُ العُقودِ اللَّازِمةِ التي لا تَبطُلُ بالمَوتِ:
1- البَيعُ لمَّا كان مَعقودًا لمَقصودِ اللُّزومِ لم يَبطُلْ بالمَوتِ ولا بالجُنونِ ولا بالإغماءِ، وكَذلك خيارُ المَجلسِ لا يَبطُلُ بالمَوتِ، ويَكونُ مَوروثًا، فإن ماتَ أحَدُ المُتَبايِعينِ قَبلَ أن يَتَفرَّقا فالخيارُ لوارِثِه [5647] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (2/478)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/57). .
2- عَقدُ الرَّهنِ يُعقَدُ لقَصدِ اللُّزومِ والإلزامِ، غَيرَ أنَّه يَتَوقَّفُ وُجودُ صِفةِ اللُّزومِ على القَبضِ والإقباضِ، والعَقدُ المَوصوفُ بهذه الصِّفةِ لا يَبطُلُ بالمَوتِ، فإن ماتَ أحَدُهما بَعدَ القَبضِ لم يَنفسِخِ الرَّهنُ بلا خِلافٍ، ويَقومُ وارِثُ كُلِّ واحِدٍ مِنهما مَقامَه؛ لأنَّ الرَّهنَ لازِمٌ مِن جِهةِ الرَّاهنِ، والعَقدُ اللَّازِمُ لا يَبطُلُ بالمَوتِ. وكَذلك إذا ماتَ الرَّاهِنُ قَبلَ إقباضِ الرَّهنِ الذي لا يَلزَمُ بدونِ قَبضٍ؛ فوارِثُه قائِمٌ مَقامَه في اختيارِ التَّقبيضِ والامتِناعِ [5648] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (2/478)، ((البيان)) للعمراني (6/23)، ((القواعد)) لابن رجب (3/65). .
3- عَقدُ المُساقاةِ لازِمٌ، فلا يَبطُلُ بالمَوتِ، فإن ماتَ رَبُّ النَّخلِ كان العامِلُ على عَمَلِه مِنَ الثَّمَرةِ قَدرَ شَرطِه، والباقي مَقسومٌ بَينَ ورَثةِ رَبِّ النَّخلِ على فرائِضِهم. وإن ماتَ العامِلُ: فإن قامَ وارِثُه بباقي العَمَلِ أخَذَ حِصَّةَ العامِلِ في الثَّمَرةِ، وإنِ امتَنَعَ لم يُجبَرْ على العَمَلِ؛ لأنَّ ما لزِمَ المَيِّتَ مِن حَقٍّ فهو مُتَعَلِّقٌ بتَرِكةٍ ولا يَتَعَلَّقُ بوارِثٍ [5649] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/383). .
ثانيًا: أمثِلةُ العُقودِ الجائِزةِ -غَيرِ اللَّازِمةِ- التي تَبطُلُ بالمَوتِ:
1- الوَكالةُ عَقدٌ جائِزٌ لا يَنتَهي إلى اللُّزومِ، ولا يُعقَدُ له، فيَبطُلُ بالمَوتِ، وتَبطُلُ الوَكالةُ بمَوتِ الموكِّلِ؛ لبُطلانِ أمرِه، وتَبطُلُ بمَوتِ الوكيلِ لتَعَذُّرِ تَصَرُّفِه [5650] يُنظر: ((شرح مختصر الكرخي)) للقدوري (5/338)، ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (2/477). .
2- المُضارَبةُ مِنَ العُقودِ الجائِزةِ، تَنفسِخُ بفسخِ أحَدِهما، أيَّهما كان، وبمَوتِه، وجُنونِه، والحَجرِ عليه لسَفَهٍ؛ لأنَّه مُتَصَرِّفٌ في مالِ غَيرِه بإذنِه، فهو كالوكيلُ، ولا فَرقَ بَينَ ما قَبلَ التَّصَرُّفِ وبَعدَه [5651] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/172)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (14/126). .
3- الشَّرِكةُ مِنَ العُقودِ الجائِزةِ، فتَبطُلُ بمَوتِ أحَد الشَّريكَينِ، وجُنونِه، والحَجرِ عليه للسَّفَهِ، وبالفسخِ مِن أحَدِهما؛ لأنَّها عَقدٌ جائِزٌ، فبَطَلَت بذلك [5652] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/131)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (14/52). .

انظر أيضا: