الفرعُ الثَّاني: هَل الفَسخُ يَرفعُ العَقدَ مِن أصلِه أو مِن حينِه؟
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "هَل الفسخُ يَرفعُ العَقدَ مِن أصلِه أو مِن حينِه؟"
[5227] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/436)، ((المجموع)) للنووي (9/270)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (9/301)، ((المنثور)) للزركشي (3/49)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 292)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/423)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/476). ، وصيغةِ: "الفسخُ هَل يَرفعُ العَقدَ مِن أصلِه أو فيما يُستَقبَلُ؟"
[5228] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 292). ، وصيغةِ: "رَفعُ العُقودِ المَفسوخةِ هَل هو مِن أصلِها، أو مِن حينِ الفَسخِ؟"
[5229] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (2/246). ، وصيغةِ: "حُكمُ الفسخِ يَظهَرُ فيما يُستَقبَلُ لا فيما مَضى"
[5230] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/38). ، وصيغةِ: "حُكمُ الرَّدِّ يَظهَرُ فيما يُستَقبَلُ لا فيما مَضى"
[5231] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (6/377)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (4/39). ، وصيغةِ: "الفسخُ يَرفعُ العَقدَ مِن حينِه لا مِن أصلِه"
[5232] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (4/276)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (2/73). ، وصيغةِ: "الفسخُ لا يَرفعُ العَقدَ مِن أصلِه بَل مِن حينِه"
[5233] يُنظر: ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (2/460). ، وصيغةِ: "فَسخُ العَقدِ رَفعٌ له مِن حينِه لا مِن أصلِه"
[5234] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/236). ، وصيغةِ: "الفسخُ لا يَرفعُ العَقدَ مِن أصلِه تَبَيُّنًا وإسنادًا إلى ما تقدَّم، ولَكِنَّه يَقطَعُ العَقدَ في الحالِ"
[5235] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (3/345). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.اشتَهرَ استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ فسخَ العَقدِ إمَّا أن يَرفعَ العَقدَ مِن أصلِه، أو مِن حينِه، فإن رَفعَه مِن أصلِه فكَأنَّه لا عَقدَ، وإن رَفعَه مِن حينِه فالفُسوخُ مَحمولةٌ على العُقودِ، ومُشَبَّهةٌ بها، أي: أنَّ العَقدَ المَفسوخَ هَل يُعتَبَرُ فسخُه من وقتِ إبرامِ العَقدِ، أو من وقتِ الفسخِ؟ فإن قُلنا: مِن وقتِ إبرامِ العَقدِ، فيَكونُ مِلكُ الزَّوائِدِ للبائِعِ، وإن قُلنا: مِن وقتِ الفسخِ، فيَكونُ مِلكُ الزَّوائِد للمُشتَري. والقاعِدةُ مَحَلُّ خِلافٍ، والأصَحُّ فيها أنَّ الفسخَ يَرفعُ العَقدَ مِن حينِه، أي: مِن يَوم الفسخِ، والمُرادُ بارتِفاعِه مِن حينِه ارتِفاعُ المِلكِ في المَبيعِ فقَط دونَ زَوائِدِه وفوائِدِه.
والعِلَّةُ في ذلك أنَّ الفسخَ بالعَيبِ -مَثَلًا- قَطعٌ للعَقدِ مِن حينِ الرَّدِّ، لا رَفعٌ له مِنَ الأصلِ؛ لأمرَينِ: أحَدُهما: أنَّ الفسخَ قد يَكونُ بالإقالةِ كما يَكونُ بالعَيبِ، ولمَّا كان الفسخُ بالإقالةِ قَطعًا للمِلكِ ولَم يَكُنْ رَفعًا له، فوجَبَ أن يَكونَ الفسخُ بالعَيبِ مِثلَه.
والثَّاني: أنَّ الفسخَ بالعَيبِ لو كان رَفعًا للعَقدِ مِن أصلِه لأبطَلَ حَقَّ الشَّفيعِ، فلَمَّا لم يُبطِلْ حَقَّ الشَّفيعِ بالفسخِ بالعَيبِ، دَلَّ على أنَّ الفسخَ بالعَيبِ قَطعٌ للعَقدِ مِن حينِ الرَّدِّ، وليس برافِعٍ مِنَ الأصلِ.
فإذا ثَبَتَ بهذين الأمرَينِ أنَّ الفسخَ لا يَرفعُ العَقدَ مِن أصلِه ثَبَتَ أنَّ المُشتَريَ يَملكُ النَّماءَ الحادِثَ في مِلكِه، ولا يَمنَعُه ذلك مِن فسخِ عَقدِه كالإقالةِ.
والمَشهورُ أنَّ الخِلافَ المَذكورَ في رَفعِ العَقدِ مِن أصلِه أو مِن حينِه خاصٌّ بالرَّدِّ بالعَيبِ، ولا يَجري في سائِرِ الفُسوخِ، فلا يُجرى في الإقالةِ والفسخِ بالتَّحالُفِ والفَسخِ بخيارِ المَجلسِ والشَّرطِ والانفِساخِ بتَلَفِ المَبيعِ قَبلَ القَبضِ؛ ولذلك يَقيسونَ الرَّدَّ بالعَيبِ على الإقالةِ في كَونِها رَفعًا للعَقدِ مِن حينِه
[5236] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/245)، ((التهذيب)) للبغوي (3/436)، ((البيان)) للعمراني (5/382)، ((العزيز)) للرافعي (8/296)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (9/301)، ((فتاوى السبكي)) (1/432)، ((تكملة السبكي على المجموع)) (12/208)، ((المنثور)) للزركشي (3/49)، ((القواعد)) للحصني (2/246)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 292). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (فَسخُ العَقدِ مُعتَبَرٌ بأصلِ العَقدِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّه على القَولِ بأنَّ الفسخَ يَرفعُ العَقدَ مِن حينِه، فيَكونُ الفسخُ مَحمولًا على العَقدِ، فيُعتَبَرُ بأصلِه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لرَفعِ العَقدِ مِن حينِه بالقاعِدةِ الأُمِّ: (فَسخُ العَقدِ مُعتَبَرٌ بأصلِ العَقدِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الفَسخُ بالعَيبِ لا يَرفعُ العَقدَ مِن أصلِه، حَتَّى لو كان المُشتَري قدِ استَخدَمَ المَبيعَ، أو أجَّرَه وأخَذَ الأُجرةَ، أو كانت شَجَرةً قد أثمَرَت، أو بَهيمةً ولَدَت- فجَميعُ هذه الزَّوائِدِ الحادِثةِ تَبقى للمُشتَري؛ فيَرُدُّ الأصلَ، ويَستَرِدُّ جَميعَ الثَّمَنِ؛ سَواءٌ حَصَلَت تلك الزَّوائِدُ قَبلَ القَبضِ أو بَعدَه، وسَواءٌ رَدَّ الأصلَ قَبلَ القَبضِ أو بَعدَه
[5237] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/436)، ((تكملة السبكي على المجموع)) (12/203). ويُنظر أيضًا: ((القواعد)) لابن رجب (2/ 400). .
2- الرَّدُّ بالعَيبِ لا يُبطِلُ حَقَّ الشَّفيعِ، ولَو كان الرَّدُّ بالعَيبِ يَرفعُ العَقدَ مِن أصلِه لأبطَل حَقَّ الشَّفيعِ، لكِنَّه لا يُبطِلُه؛ فدَلَّ على أنَّ الفسخَ قَطعٌ للعَقدِ مِن حينِه
[5238] يُنظر: ((تكملة السبكي على المجموع)) (12/203). .
3- إذا فُسِخَ المَبيعُ بالفَلَسِ لتَعَذُّرِ وُصولِه إلى الثَّمَنِ، فإنَّه يَنفسِخُ مِن حينِه قَطعًا، والزَّوائِدُ له قَطعًا
[5239] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/49)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 292). .
4- فَسخُ النِّكاحِ يَرفعُ العَقدَ مِن أصلِه مُطلَقًا، أي: قَبلَ القَبضِ وبَعدَه؛ تَخريجًا مِنَ القَولِ بوُجوبِ مَهرِ المِثلِ إذا فُسِخَ النِّكاحُ بعَيبٍ حَدَث بَعدَ المَسيسِ، فلو كان الزَّوجُ وَطِئَها قَبلَ الفسخِ لزِمَه مَهرُ مِثلِها
[5240] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (11/338)، ((العزيز)) للرافعي (4/276)، وخَرَّجَ الزَّركَشيُّ فسخَ النِّكاحِ على الخِلافِ في القاعِدةِ، فقال: (لم يُجروا هذا الخِلافَ في فسخِ النِّكاحِ، والقياسُ مَجيئُه في الفسخِ بالعُيوبِ، وليس المُرادُ بالرَّفعِ مِن أصلِه أن يَتَبَيَّنَ عَدَمُ الوُقوعِ، بَل المُرادُ أنَّ الشَّرعَ سَلَّطَ العاقِدَ على رَفعِ أحكامِه، وجَعَله كَأن لم يَكُنْ، ولا فَرقَ في هذا المَعنى بَينَ البَيعِ والنِّكاحِ، وإن كانت عُيوبُها مُختَلفةً. ويُمكِنُ أن يُقالَ: الفسخُ بالعَيبِ في النِّكاحِ إمَّا أن يَرفعَ العَقدَ مِن أصلِه، أو مِن حينِه: فإن كان من أصلِه وجَبَ مَهرُ المِثلِ، ولَم يَجِبِ المُسَمَّى، سَواءٌ كان بمُقارِنٍ، أو بحادِثٍ بَينَ العَقدِ والوطءِ، أو بَعدَ الوطءِ. وإن كان مِن حينِه وجَبَ المُسَمَّى ولَم يَجِبْ مَهرُ المِثلِ في الأحوالِ الثَّلاثةِ). ((المَنثور)) (3/50). .