موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّالثُ: العَقدُ سَبَبُ المِلكِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "العَقدُ سَبَبُ المِلكِ" [5049] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/216)، ((تقويم النظر)) لابن الدهان (2/251). ، وصيغةِ: "العَقدُ سَبَبٌ لمِلكِ العِوَضينِ، والأصلُ تَرَتُّبُ المُسَبَّباتِ على أسبابِها" [5050] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (5/386). ، وصيغةِ: "العَقدُ سَبَبُ الاستِحقاقِ" [5051] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (13/348). ، وصيغةِ: "العُقودُ أسبابٌ لاشتِمالِها على تَحصيلِ حُكمِها في مُسَبَّباتِها بطَريقِ المُناسَبةِ" [5052] يُنظر: ((الذخيرة)) (4/392)، ((الفروق)) (3/142) كلاهما للقرافي، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/304). ، وصيغةِ: "العُقودُ أسبابٌ لتَحصيلِ المَقاصِدِ مِنَ الأعيانِ" [5053] يُنظر: ((الذخيرة)) (5/20)، ((الفروق)) (3/269) كلاهما للقرافي. .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العُقودَ المَشروعةَ أسبابٌ شَرعيَّةٌ لتَحصيلِ المَقاصِدِ مِنَ الأعيانِ، والأصلُ تَرتيبُ المُسَبَّباتِ على أسبابِها، فتَرتيبُ آثارِ العُقودِ هيَ في الأصلِ مِن عَمَلِ الشَّارِعِ لا مِن عَمَلِ المُتَعاقِدين؛ فإرادةُ المُتَعاقِدين هيَ التي تُنشِئُ العَقدَ، ولَكِنَّ الشَّريعةَ هيَ التي تُرَتِّبُ ما لكُلِّ عَقدٍ مِن حِكَمٍ وآثارٍ، ومِن هنا يَقولُ الفُقَهاءُ: إنَّ العُقودَ أسبابٌ جَعليَّةٌ شَرعيَّةٌ لآثارِها، أي أنَّ الرَّابطةَ بَينَ العَقدِ وآثارِه باعتِبارِ أنَّ أحَدَهما مُسَبَّبٌ، والآخَرَ سَبَبٌ، وهذه ليسَت رابطةً آليَّةً طَبيعيَّةً عَقليَّةً، وإنَّما هيَ رابطةٌ جَعلها الشَّارِعُ بَينَهما حَتَّى لا يَبغيَ بَعضُ النَّاسِ على بَعضٍ بما يَشتَرِطونَ مِن شُروطٍ، وحَتَّى يَكونَ لكُلِّ تَصَرُّفٍ حُكمُه مِنَ المُشَرِّعِ الحَكيمِ.
فإرادةُ الإنسانِ مَقصورةٌ على إنشاءِ العَقدِ فقَط كعَقدِ البَيعِ، وأمَّا ما يَتَرَتَّبُ على العَقدِ مِن آثارٍ، كنَقلِ مِلكيَّةِ المَبيعِ إلى المُشتَري، واستِحقاقِ الثَّمَنِ في ذِمَّةِ المُشتَري للبائِعِ، فمَتروكٌ لتَقديرِ الشَّرعِ. وبذلك يَكونُ العَقدُ سَبَبًا شَرعيًّا لتَحصيلِ المِلكِ المَقصودِ مِنه، وبه يَثبُتُ المِلكُ في المَحَلِّ، وهو المَقصودُ مِنَ العَقدِ، وإذا وجَبَت مُراعاةُ جانِبِ العَقدِ، فلأن تَجِبَ مُراعاةُ جانِبِ المِلكِ أَولى [5054] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/216)، ((الذخيرة)) للقرافي (5/20)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/3050). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ عَقدٍ تَقاعَد عنه مَقصودُه بَطَل مِن أصلِهـ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ العَقدَ المَشروعَ الذي لم يَتَقاعَدْ عن مَقصودِه يَكونُ صَحيحًا، فيَكونُ سَبَبًا شَرعيًّا للمِلكِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (كُلُّ عَقدٍ تَقاعَد عنه مَقصودُه بَطَل مِن أصلِهـ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- البَيعُ المُطلَقُ سَبَبٌ للمِلكِ شَرعًا، إلَّا أنَّ الحُكمَ قد يَتَراخى عنِ السَّبَبِ لمانِعٍ، فيَثبُتُ المِلكُ في الثَّمَنِ للبائِعِ، ويَثبُتُ المِلكُ في السِّلعةِ للمُشتَري [5055] يُنظر: ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص: 299)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/40). .
2- يَجوزُ تَعجيلُ دَفعِ الأُجرةِ في الإجارةِ قَبلَ العَمَلِ، كما لو كان عليه دَينٌ مُؤَجَّلٌ فعَجَّلَه؛ لأنَّ العَقدَ سَبَبُ استِحقاقِ الأُجرةِ، فالاستِحقاقُ -وإن لم يَثبُتْ- فقدِ انعَقدَ سَبَبُه، وتَعجيلُ الحُكمِ قَبلَ الوُجوبِ -بَعدَ وُجودِ سَبَبِ الوُجوبِ- جائِزٌ [5056] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/203). .
3- عَقدُ النِّكاحِ سَبَبٌ شَرعيٌّ لتَمليكِ الوَطءِ المُباحِ، إلَّا بمانِعٍ؛ إذِ العَقدُ سَبَبٌ تَصيرُ به المَرأةُ فِراشًا للزَّوجِ [5057] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 120)، ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (1/472)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 190)، ((فتح المنعم)) لموسى لاشين (5/473). .

انظر أيضا: