موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّاني: ما خالَف مُقتَضى العَقدِ فهو باطِلٌ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما خالَف مُقتَضى العَقدِ فهو باطِلٌ" [5039] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/127). ، وصيغةِ: "كُلُّ شَرطٍ خالَف مُقتَضى العَقدِ فهو باطِلٌ" [5040] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/128)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (5/156)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (8/243). ، وصيغةِ: "كُلُّ شَرطٍ يُنافي مُقتَضى العَقدِ فهو باطِلٌ، إلَّا إذا كان فيه مَصلَحةٌ للمُتَعاقِدينِ" [5041] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (29/129)، ((القواعد النورانية)) (ص: 258) كلاهما لابن تيمية. .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العُقودَ المَشروعةَ إنَّما توجِبُ مُقتَضَياتِها بالشَّرعِ، فيُعتَبَرُ تَغييرُها تَغييرًا لما أوجَبَه الشَّرعُ؛ بمَنزِلةِ تَغييرِ العِباداتِ، وهذا نُكتةُ القاعِدةِ، وهيَ أنَّ العُقودَ مَشروعةٌ على وجهٍ، فاشتِراطُ ما يُخالفُ مُقتَضاها تَغييرٌ للمَشروعِ؛ ولذلك كان مِن شُروطِ صِحَّةِ العَقدِ أن يَكونَ خاليًا عن شَرطٍ فاسِدٍ، وهو الشَّرطُ المُخالفُ لمُقتَضى العَقدِ، الدَّاخِلُ في صُلبِ العَقدِ مِنَ البَدَلِ. فإن لم يُخالفْ مُقتَضى العَقدِ جازَ الشَّرطُ والعَقدُ، وإن خالَف مُقتَضى العَقدِ لكِنَّه لم يَدخُلْ في صُلبِه يَبطُلُ الشَّرطُ ويَبقى العَقدُ صَحيحًا، وعلى ذلك لا يَجوزُ أن يُشتَرَطَ في العَقدِ ما يُخالفُ مُقتَضاه، بَل يَكونُ شَرطُ العَقدِ ما يَقتَضيه لفظُه [5042] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (5/2673)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/141)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/131)، ((المنثور)) للزركشي (2/239). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ عَقدٍ تَقاعَد عنه مَقصودُه بَطَل مِن أصلِهـ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ ما خالَف مُقتَضى العَقدِ يَكونُ سَبَبًا في كَونِ العَقدِ لا يَحصُلُ مَقصودُه، فكان باطِلًا؛ لأنَّ كُلَّ عَقدٍ تَقاعَد عنه مَقصودُه بَطَل مِن أصلِه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالت: ((دَخَلَت عليَّ بَريرةُ فقالت: إنَّ أهلي كاتَبوني على تِسعِ أواقٍ في تِسعِ سِنينَ، في كُلِّ سَنةٍ أوقيَّةٌ، فأعينيني. فقُلتُ لها: إن شاءَ أهلُكِ أن أعَدَّها لهم عَدَّةً واحِدةً وأعتِقَك ويَكونَ الولاءُ لي فعَلتُ، فذَكَرَت ذلك لأهلِها، فأبَوا إلَّا أن يَكونَ الولاءُ لهم، فأتَتني فذَكَرَت ذلك فانتَهَرتُها، فقالت: لاها اللَّهِ إذًا، فسَمِعَ رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فسَألَني، فأخبَرتُه، فقال: اشتَريها وأعتِقيها، واشتَرِطي لهمُ الولاءَ؛ فإنَّ الولاءَ لمَن أعتَقَ. ففعَلتُ. قالت: ثُمَّ خَطَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عَشيَّةً، فحَمِدَ اللَّهَ، وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ فما بالُ أقوامٍ يَشتَرِطونَ شُروطًا ليسَت في كِتابِ اللهِ؟ ما كان مِن شَرطٍ ليس في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فهو باطِلٌ، وإن كان مِائةَ شَرطٍ، كِتابُ اللهِ أحَقُّ، وشَرطُ اللَّهِ أوثَقُ)) [5043] أخرجه البخاري (2168)، ومسلم (1504) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أبطَلَ اشتِراطَ الولاءِ؛ لأنَّه يُخالفُ مُقتَضى العَقدِ؛ إذ إنَّ مُقتَضى العِتقِ أن يَكونَ الولاءُ للمُعتِقِ لا لغَيرِه، وتُقاسُ جَميعُ الشُّروطِ التي تُنافي موجِبَ العَقدِ على اشتِراطِ الولاءِ؛ لأنَّ العِلَّةَ فيه: كَونُه مُخالفًا لمُقتَضى العَقدِ؛ وذلك لأنَّ العُقودَ توجِبُ مُقتَضَياتِها بالشَّرعِ، فيُعتَبَرُ تَغييرُها تَغييرًا لما أوجَبَه الشَّرعُ؛ فإنَّ العُقودَ مَشروعةٌ على وجهٍ، فاشتِراطُ ما يُخالفُ مُقتَضاها تَغييرٌ للمَشروعِ [5044] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/131)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (8/243). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (كُلُّ عَقدٍ تَقاعَد عنه مَقصودُه بَطَل مِن أصلِهـ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- يُشتَرَطُ في الصَّرفِ التَّقابُضُ في المَجلسِ؛ لأنَّ نَفسَ العَقدِ مَأخوذٌ مِن صَرفِ كُلِّ واحِدٍ مِنهما البَدَلَ الآخَرَ، فلم يَجُزِ اشتِراطُ التَّأخيرِ؛ لأنَّه لا يَجوزُ أن يَكونَ مِن شَرطِ العَقدِ ما يُخالفُ مُقتَضاه، بَل يَكونُ شَرطُ العَقدِ ما يَقتَضيه لفظُه [5045] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (5/2673). .
2- إذا استَأجَرَ دارًا مُدَّةً مَعلومةً بأُجرةٍ مُسَمَّاةٍ بشَرطِ أن لا يَسكُنَها، فالإجارةُ فاسِدةٌ، ولا أُجرةَ على المُستَأجِرِ إذا لم يَسكُنْها، وإن سَكَنَها فعليه أجرُ مِثلِها لا يَنقُصُ مِمَّا سُمِّيَ، أمَّا فسادُ العَقدِ فظاهِرٌ؛ لأنَّ شَرطَه أن لا يَسكُنَ نَفى موجِبَ العَقدِ، وهو الانتِفاعُ بالمَعقودِ عليه، وأنَّه شَرطٌ يُخالفُ مُقتَضى العَقدِ، ولا يُلائِمُ العَقدَ، فكان شَرطًا فاسِدًا [5046] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/195). .
3- إذا وهَبَ غَيرَه دارًا على أن يَرُدَّ عليه شَيئًا مِنها، أو يُعَوِّضَه عنها شَيئًا، فالهبةُ جائِزةٌ، والشَّرطُ باطِلٌ؛ لأنَّها شُروطُ تُخالفُ مُقتَضى العَقدِ، فكانت فاسِدةً، ولا تُبطِلُ الهبةَ [5047] يُنظر: ((الاختيار)) للموصلي (3/51). .
4- المودَعُ عِندَه إذا دَلَّ على الوديعةِ التي عِندَه يَضمَنُها، وإذا دَلَّ المُحرِمُ الحَلالَ على صَيدٍ فلا ضَمانَ؛ لأنَّ المُحرِمَ دَلَّ على ما لا يَلزَمُه حِفظُه، فإذا أتلَفه المَدلولُ لم يَلزَمِ الدَّالَّ ضَمانٌ، وليس كذلك المودَعُ؛ لأنَّه قد كُلِّف حِفظَ الوديعةِ والذَّبَّ عنها، فتَكَلَّف والتَزَمَ، فلَمَّا ناقَضَ ما التَزَمَ به، وخالَف مُقتَضى العَقدِ الذي عَقَدَ وأبرَمَ، وجَبَ عليه الضَّمانُ [5048] يُنظر: ((عدة البروق)) للونشريسي (ص: 665). .

انظر أيضا: