موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: مِنَ القَواعِدِ المُندَرِجةِ تَحتَ قاعِدةِ: عُقودُ المُعاوَضاتِ لا تَصِحُّ مَعَ الجَهالةِ: جَهالةُ المَعقودِ عليه تَمنَعُ جَوازَ العَقدِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "جَهالةُ المَعقودِ عليه تَمنَعُ جَوازَ العَقدِ" [4999] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (13/19)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (7/426). ، وصيغةِ: "جَهالةُ المَعقودِ عليه تُفسِدُ العَقدَ" [5000] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 781)، ((العناية)) للبابرتي (9/118)، ((البناية)) للعيني (8/373)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 75). ، وصيغةِ: "جَهالةُ المَعقودِ عليه توجِبُ فَسادَ العَقدِ" [5001] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/185)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (7/467). ، وصيغةِ: "المَجهولُ لا يَجوزُ تَمليكُه بشَيءٍ مِنَ العُقودِ قَصدًا" [5002] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/74). ، وصيغةِ: "البَدَلُ المَجهولُ لا يَجوزُ العَقدُ به" [5003] يُنظر: ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/260). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ جَهالةَ المَعقودِ عليه تَقتَضي فسادَ العَقدِ؛ لأنَّها تُفضي إلى المُنازَعةِ والخُصومةِ، فالجَهالةُ بعَينِها لا تُفسِدُ العَقدَ، وإنَّما فسادُ العَقدِ بسَبَبِ جَهالةِ المَعقودِ عليه ليس لعينِ الجَهالةِ، بَل لأنَّها تُفضي إلى مُنازَعةٍ مانِعةٍ عنِ التَّسليمِ والتَّسَلُّمِ، وكُلُّ جَهالةٍ لا تُفضي إلى المُنازَعةِ فإنَّها لا تُؤَثِّرُ في العَقدِ [5004] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/208)، ((المبسوط)) (15/164) كلاهما للسرخسي، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (7/467)، ((الاختيار)) للموصلي (2/57)، ((البناية)) للعيني (8/373). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (عُقودُ المُعاوَضاتِ لا تَصِحُّ مَعَ الجَهالةِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ جَهالةَ المَعقودِ عليه تَمنَعُ مِنَ التَّسليمِ والتَّسَلُّمِ، فتُبطِلُ العَقدَ؛ لأنَّ عُقودَ المُعاوَضاتِ لا تَصِحُّ مَعَ الجَهالةِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ الإجماعِ:
وقد نَقَلَه ابنُ عَبدِ البَرِّ على صورةٍ مِن صوَرِ العَقدِ، وهيَ أنَّ جَهالةَ الأجَلِ في البَيعِ لا تَجوزُ [5005] قال: (لا خِلافَ بَينَ العُلَماءِ أنَّ البَيعَ إلى مِثلِ هذا الأجَلِ المَجهولِ لا يَجوزُ، وكَفى بالإجماعِ عِلمًا). ((الاستذكار)) (6/421). .
كما نَقَلَه ابنُ مازَه على صورةٍ أُخرى مِن صوَرِ القاعِدةِ، وهيَ الإجماعُ على أنَّ جَهالةَ المَعقودِ عليه تَمنَعُ جَوازَ الإجارةِ [5006] قال: (جَهالةُ المَعقودِ عليه تَمنَعُ جَوازَ الإجارةِ إجماعًا). ((المُحيط البرهاني)) (7/479). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (عُقودُ المُعاوَضاتِ لا تَصِحُّ مَعَ الجَهالةِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا باعَ شَيئًا مِنَ الحَيَوانِ واستَثنى ما في بَطنِه فالبَيعُ فاسِدٌ؛ لأنَّ ما في البَطنِ لا يَجوزُ إيجابُ البَيعِ فيه مَقصودًا، فلا يَجوزُ استِثناؤُه مَقصودًا، كاليَدِ والرِّجلِ، وهذا لأنَّ الجَنينَ ما دامَ مُتَّصِلًا بالأُمِّ فهو في حُكمِ الأجزاءِ، وأجزاءُ الحَيَوانِ لا تَقبَلُ العَقدَ مَقصودًا، ولا تَكونُ مَقصودةً بالاستِثناءِ؛ وهذا لأنَّ الجَنينَ في البَطنِ مَجهولٌ، ولا يُدرى أذَكَرٌ هو أم أُنثى، واحِدٌ أو مُثَنًّى، فإذا كان المُستَثنى مَجهولًا فالمُستَثنى مِنه يَصيرُ مَجهولًا أيضًا، وجَهالةُ المَعقودِ عليه تَمنَعُ جَوازَ العَقدِ [5007] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (13/19). .
2- إذا استَأجَرَ رَجُلٌ أرضًا، ولَم يَذكُرْ أنَّه يَزرَعُها، أو ذَكَرَ أنَّه يَزرَعُها ولَكِن لم يَذكُرْ أيَّ شَيءٍ يَزرَعُها، فالإجارةُ فاسِدةٌ، أمَّا إذا لم يَذكُرْ أنَّه يَزرَعُها فالإجارةُ فاسِدةٌ لجَهالةِ المَعقودِ عليه؛ لأنَّ الأرضَ تَستَأجِرُ تارةً للزِّراعةِ، وتارةً للبناءِ والغَرسِ، ولا رُجحانَ للبَعضِ على البَعضِ، فإذا لم يُبَيِّنْ لا يَصيرُ المَعقودُ عليه مَعلومًا.
وكَذلك إذا ذَكَرَ أنَّه يَزرَعُها إلَّا أنَّه لم يُبَيِّنْ أيَّ شَيءٍ يَزرَعُها فالإجارةُ فاسِدةٌ؛ لجَهالةِ المَعقودِ عليه؛ لأنَّ الأرضَ تُستَأجَرُ لزِراعةِ الحِنطةِ، وتُستَأجَرُ لزِراعةِ الشَّعيرِ، وتُستَأجَرُ لزِراعةِ الذُّرةِ والأَرُزِّ، ويَتَفاوتُ ذلك في حَقِّ الأرضِ تَفاوُتًا كَبيرًا، فإذا لم يُبَيِّنْ شَيئًا مِن ذلك لا يَصيرُ المَعقودُ عليه مَعلومًا [5008] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (7/465)، ((العناية)) للبابرتي (9/118)، ((البناية)) للعيني (10/308)، ((لسان الحكام)) لابن الشحنة (ص: 364). .
3- إذا استَأجَرَ حَفَّارًا ليَحفِرَ له بئرًا في دارِه ولَم يُسَمِّ مَوضِعًا ولَم يَصِفْها، فهو فاسِدٌ؛ لجَهالةِ المَعقودِ عليه، فعَمَلُ الحَفرِ يَختَلِفُ باختِلافِ المَوضِعِ في الصَّلابةِ والرَّخاوةِ والسُّهولةِ والصُّعوبةِ، ويَختَلفُ باختِلافِه البِئرُ في العَرضِ والعُمقِ [5009] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/47). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ الجَهالةُ التي لا تُفضي إلى المُنازَعةِ، فكُلُّ جَهالةٍ لا تُفضي إلى المُنازَعةِ فإنَّها لا تُؤَثِّرُ في العَقدِ، كَمَن أعطى لغَيرِه غَنَمًا مُسَمَّاةً، واشتَرَطَ عليه حينَ دَفعَ الغَنَمَ إليه أن يولِّدَها ويَرعى أولادَها مَعَها، فالجَهالةُ مَوجودةٌ؛ لأنَّ المَعقودَ عليه هو العَمَلُ، فلا بُدَّ مِن إعلامِه، وإعلامُه ببَيانِ مَحَلِّه، وهنا مَحَلُّ العَمَلِ مَجهولٌ؛ لأنَّه لا يَدري ما تَلدُ مِنها، وكَم تَلِدُ، وجَهالةُ المَعقودِ عليه مُفسِدةٌ للعَقدِ، ولَكِنَّه جائِزٌ هنا؛ لأنَّ عَمَلَ النَّاسِ عليه دونَ أن تُفضيَ هذه الجَهالةُ إلى المُنازَعةِ بَينَهم، والجَهالةُ بعَينِها لا تُفسِدُ العَقدَ، فكُلُّ جَهالةٍ لا تُفضي إلى المُنازَعةِ فهيَ لا تُؤَثِّرُ في العَقدِ [5010] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/164). .

انظر أيضا: