موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: كُلُّ عَقدٍ تَقاعَد عنه مَقصودُه بَطَل مِن أصلِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ عَقدٍ تَقاعَد عنه مَقصودُه بَطَل مِن أصلِه" [5011] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) (1/259)، ((رفع الحاجب)) (4/209) كلاهما لابن السبكي، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/380). ، وصيغةِ: "كُلُّ تَصَرُّفٍ تَقاعَد عن تَحصيلِ مَقصودِه فهو باطِلٌ" [5012] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/143)، ((الفوائد الجسام)) للبلقيني (ص: 452)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 285). ، وصيغةِ: "كُلُّ تَصَرُّفٍ قاصِرٍ عن تَحصيلِ مَقصودِه لا يُشرَعُ، ويَبطُلُ إن وَقَع" [5013] يُنظر: ((قواعد الفقهـ)) للمقري (2/600). ، وصيغةِ: "كُلُّ عَقدٍ لا يُفيدُ مَقصودَه يَبطُلُ" [5014] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/260). ، وصيغةِ: "كُلُّ تَصَرُّفٍ لا يَتَرَتَّبُ عليه مَقصودُه لا يُشرَعُ مِن أصلِه" [5015] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/106). ، وصيغةِ: "كُلُّ سَبَبٍ لا يَحصُلُ مَقصودُهه لا يُشرَعُ" [5016] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/171). ، وصيغةِ: "كُلُّ لفظةٍ كانت خالصةً لعَقدٍ حُمِلَ إطلاقُها عليه، فإن وَصَل بها ما يُنافي مُقتَضاه بَطَل" [5017] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (11/105)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/347)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/21). ، وصيغةِ: "كُلُّ تَصَرُّفٍ كان مِنَ العُقودِ -كالبَيعِ- أو غَيرِ العُقودِ -كالتَّعزيراتِ- وهو لا يَحصُلُ مَقصودُهه: فإنَّه لا يُشرَعُ، ويَبطُلُ إن وَقَع" [5018] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/238). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العَقدَ الصَّحيحَ هو الذي يُفيدُ تَمامَ مَقصودِ المُتَعاقِدين؛ فإنَّ اللَّهَ تَعالى شَرَعَ في كُلِّ تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفاتِ ما يُحَصِّلُ مَقاصِدَه ويوفِّرُ مَصالحَه، وكُلُّ عَقدٍ لا يُفيدُ المَقصودَ مِنه فإنَّه يَبطُلُ، وحَيثُ عدِمَ الشَّرطُ المُصَحِّحُ للعَقدِ بَطَلَ العَقدُ من أصلِه، فإذا كان التَّصَرُّفُ لا يَتَرَتَّبُ عليه مَقصودُه لا يُشرَعُ مِن أصلِه، وإذا وقَعَ كان باطِلًا. وعلى ذلك فإنَّه يُشتَرَطُ في المَحَلِّ الذي يَتَعَلَّقُ به الالتِزامُ: أن يَكونَ قابلًا لحُكمِ التَّصَرُّفِ، بمَعنى ألَّا يَكونَ التَّصَرُّفُ فيه مُخالفًا للشَّرعِ [5019] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/143)، ((الفروق)) للقرافي (3/260)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (3/500)، ((المنثور)) للزركشي (3/106)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/380)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (7/141)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (6/156). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم نَهى عن ثَمَنِ الكَلبِ، ومَهرِ البَغيِّ، وحُلوانِ الكاهِنِ [5020] أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1567). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن هذه الأشياءِ؛ لخُبثِها ومُخالَفتِها لشَرعِ اللهِ تَعالى، فدَلَّ على بُطلانِها، أمَّا مَهرُ البَغيِّ فهو ما تَأخُذُه الزَّانيةُ على الزِّنا، وسَمَّاه مَهرًا لكَونِه على صورَتِه، وهو حَرامٌ بإجماعِ المُسلمينَ. وأمَّا حُلوانُ الكاهِنِ فهو ما يُعطاه على كَهانَتِه [5021] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/352)، ((شرح مسلم)) للنووي (10/231)، ((العدة)) لابن العطار (2/1119)، ((رياض الأفهام)) للفاكهاني (4/273). .
2- مِنَ الإجماعِ:
فقد حَكاه ابنُ رُشدٍ [5022] قال: (ما اجتَمَعوا على إبطالِ إجارَتِه: كُلُّ مَنفعةٍ كانت لشَيءٍ مُحَرَّمِ العَينِ، كذلك كُلُّ مَنفعةٍ كانت مُحَرَّمةً بالشَّرعِ، مِثلُ: أجرِ النَّوائِحِ، وأجرِ المُغَنِّياتِ، وكذلك كُلُّ مَنفَعةٍ كانت فرضَ عَينٍ على الإنسانِ بالشَّرعِ مِثلُ الصَّلاةِ، وغَيرِها). ((بداية المُجتَهدِ)) (4/6). ، والنَّوويُّ [5023] قال: (قال البَغَويُّ مِن أصحابنا والقاضي عِياضٌ: أجمَعَ المُسلمونَ على تَحريمِ حُلوانِ الكاهنِ؛ لأنَّه عِوَضٌ عَن مُحرَّمٍ، ولأنَّه أكلُ المالِ بالباطِلِ. وكَذلك أجمَعوا على تَحريمِ أُجرةِ المُغنِّيَّةِ للغِناءِ، والنَّائِحةِ للنَّوحِ). ((شرح مسلم)) (10/231). على صورةٍ مِن صورِ القاعِدةِ، وهو إبطالُ الإجارةِ التي لا تُحَصِّلُ مَقصودَها، كالإجارةِ على شَيءٍ مُحَرَّمٍ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- الخِلافُ في اشتِراطِ نَفيِ خيارِ المَجلِسِ في البَيعِ يُبنى على القاعِدةِ: فمَن أبطَلَ العَقدَ أوِ الشَّرطَ نَظَر إلى أنَّ مَقصودَ العَقدِ إثباتُ الخيارِ فيه للتَّرَوِّي، فاشتِراطُ نَفيِه يُخِلُّ بمَقصودِه. ومَن صَحَّحَه نَظَرَ إلى أنَّ لُزومَ العَقدِ هو المَقصودُ، والخيارُ دَخيلٌ فيه، وكُلُّ تَصَرُّفٍ تَقاعَد عن تَحصيلِ مَقصودِه فهو باطِلٌ [5024] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/143)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 285). .
2- لا تَصِحُّ الإجارةُ على عَمَلٍ مُحَرَّمٍ؛ لأنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ تَقاعَد عن تَحصيلِ مَقصودِه فهو باطِلٌ [5025] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/143)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 285). .
3- مَتى قدَرَ الوكيلُ على تَحصيلِ مَقصودِ الموكِّلِ بما سَمَّى له جازَ التَّوكيلُ وإلَّا فلا؛ لأنَّ الوَكالةَ غَيرُ مَقصودةٍ لعَينِها، بَل المَقصودُ شَيءٌ آخَرُ يَحصُلُ للموكِّلِ، فإذا قدَرَ على تَحصيلِ مَقصودِه بما سُمِّيَ له كان هذا عَقدًا مُفيدًا للمَقصودِ فصَحَّ، وإلَّا فلا [5026] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (19/38). .
4- إذا وقَعَ التَّوقيتُ في عَقدِ النِّكاحِ أفسَدَه؛ لمُنافاتِه لمَقصودِه؛ لأنَّ أجَلَ النِّكاحِ جُعِلَ مُقدَّرًا لعُمرِ أقصَرِ الزَّوجَينِ عُمرًا. وكُلُّ تَصَرُّفٍ تَقاعَد عن تَحصيلِ مَقصودِه فهو باطِلٌ [5027] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/144). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها [5028] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/679). :
1- إزالةُ الشَّعرِ بالحَلقِ أوِ التَّقصيرِ مَقصَدٌ للتَّحَلُّلِ مِنَ الحَجِّ والعُمرةِ، ومَعَ ذلك يُشرَعُ إمرارُ الموسى على رَأسِ مَن لا شَعرَ له.
2- دَفعُ المالِ للكُفَّارِ حَرامٌ حَتَّى لا يَنتَفِعوا به ويَتَقَوَّوا على المُسلمينَ، ومَعَ ذلك يَجوزُ دَفعُ المالِ لهم لفِداءِ أسرى المُسلمينَ، فوسيلةُ المُحَرَّمِ هنا غَيرُ مُحَرَّمةٍ؛ لأنَّها أفضَت إلى مَصلَحةٍ راجِحةٍ.

انظر أيضا: