المَطلَبُ الأوَّلُ: العِبرةُ في العُقودِ للمَقاصِدِ والمَعاني لا للألفاظِ والمَباني
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "العِبرةُ في العُقودِ للمَقاصِدِ والمَعاني لا للألفاظِ والمَباني"
[4807] يُنظر: ((معين الحكام)) للطرابلسي (ص: 147)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 16)، ((مرشد الحيران)) لقدري باشا (ص: 36)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 55)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 91)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/403). ، وصيغةِ: "العِبرةُ في العُقودِ للمَعاني لا للألفاظِ"
[4808] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (3/152)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (6/270)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (2/268). ، وصيغةِ: "العِبرةُ في العُقودِ للمَعاني دونَ الألفاظِ"
[4809] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (7/146)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/102)، ((العناية)) للبابرتي (3/249). ، وصيغةِ: "العِبرةُ في العُقودِ بالشُّروطِ التي اتَّفقَ عليها المُتَعاقِدانِ، والمَقاصِدُ مُعتَبَرةٌ"
[4810] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (30/152). ، وصيغةِ: "المُراعى في العُقودِ حَقائِقُها ومَعانيها لا صُوَرُها وألفاظُها"
[4811] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/284). ، وصيغةِ: "العُقودُ لا تُعتَبَرُ بألفاظِها، وإنَّما يُعتَبَرُ مَعانيها"
[4812] يُنظر: ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/286). ، وصيغةِ: "العِبرةُ في العُقودِ باللَّفظِ أوِ المَعنى؟"
[4813] يُنظر: ((تحرير الفتاوى)) لابن العراقي (1/762)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (2/82). ، وصيغة: "هَل الاعتِبارُ بألفاظِ العُقودِ أو بمَعانيها؟"
[4814] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/174)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/325). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.العَقدُ: هو ارتِباطُ الإيجابِ بالقَبولِ، كعَقدِ البَيعِ، والإجارةِ، والإعارةِ... إلخ.
واللَّفظُ: هو الكَلامُ الذي يَنطِقُ به الإنسانُ بقَصدِ التَّعبيرِ عن ضَميرِه.
والمُرادُ بالمَقاصِدِ والمَعاني: ما يَشمَلُ المَقاصِدَ التي تُعَيِّنُها القَرائِنُ اللَّفظيَّةُ التي توجَدُ في عَقدٍ فتُكسِبُه حُكمُ عَقدٍ آخَرَ.
وتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العِبرةَ في العُقودِ بمَعانيها وحَقائِقِها لا بصيَغِها وألفاظِها، فعِندَ حُصولِ العَقدِ لا يُنظَرُ للألفاظِ التي يَستَعمِلُها العاقِدانِ حينَ العَقدِ، بَل إنَّما يُنظَرُ إلى مَقاصِدِهمُ الحَقيقيَّةِ مِنَ الكَلامِ الذي يُلفظُ به حينَ العَقدِ، ويَشمَلُ ذلك المَقاصِدَ العُرفيَّةَ المُرادةَ للنَّاسِ في اصطِلاحِ تَخاطُبِهم، فإنَّها مُعتَبَرةٌ في تَعيينِ جِهةِ العُقودِ، فيُحمَلُ كَلامُ كُلِّ إنسانٍ على لُغَتِه وعُرفِه؛ لأنَّ المَقصودَ الحَقيقيَّ هو المَعنى لا اللَّفظُ ولا الصِّيغةُ المُستَعمَلةُ، وهذا هو الصَّحيحُ عِندَ أكثَرِ الفُقَهاءِ.
وذِكرُ لفظِ العُقودِ في هذه القاعِدةِ ليس لإفادةِ أنَّ اعتِبارَ المَقاصِدِ والمَعاني لا يَجري إلَّا في العُقودِ، فالقاعِدةُ المَذكورةُ تَجري في غَيرِ العُقودِ، كالدَّعاوى؛ ولذلك عَبَّرَ عنها الكَرخيُّ بصيغةِ: (الأصلُ أنَّه يُعتَبَرُ في الدَّعاوى مَقصودُ الخَصمَينِ في المُنازَعةِ دونَ الظَّاهرِ).
ولَكِن خُصَّتِ العُقودُ هنا؛ لأجلِ الخِلافِ الواقِعِ فيها بَعدَ الاتِّفاقِ على أنَّ الأُمورَ بمَقاصِدِها، فخالَف بَعضُهم فأخرَجَ العُقودَ مِن جُملةِ الأُمورِ، أو أخرَجَ بَعضَها مُراعاةً مِنه لحَساسيَّةِ العُقودِ، وأنَّ الألفاظَ وُضِعَت للدَّلالةِ على المَعنى، فهيَ الأصلُ، وبها يَنضَبطُ أمرُ العَقدِ، ويُغلقُ بابَ النِّزاعِ.
واضطَرَبَت بَعضُ الفُروعِ في أنَّ الأرجَحَ اعتِبارُ اللَّفظِ أوِ المَعنى، أو لا يُطلَقُ تَرجيحٌ؟ وحاولَ الرَّافِعيُّ ضَبطَها بَعدَ اعتِرافِه بتَنَوُّعِها، فقال: (إنِ اختَلَّ اللَّفظُ أُهمِلَ، وذلك كالشِّراءِ بلَفظ السَّلَمِ؛ فإنَّ تَمامَ مَعنى السَّلَمِ لا يوجَدُ في الشِّراءِ؛ لأنَّه أخَصُّ مِنه، ولا يُؤخَذُ الأخَصُّ في الأعَمِّ. وكذلك أن يَرفعَ آخِرُ اللَّفظِ أوَّلَه، مِثلُ: بعتُك بلا ثَمَنٍ، وإنِ انتَظَمَ، مِثلُ: أن يَكونَ المَعنى الأصليُّ مُشتَرِكًا بَينَ خاصَّينِ يَشتَهرُ في أحَدِهما مَعَ كَونِه مُستَعمَلًا في الآخَرِ، كالسَّلَمِ بلَفظِ الشِّراءِ؛ فإنَّ المَعنى الأصليَّ للشِّراءِ مَوجودٌ بتَمامِه في السَّلَمِ إلَّا أنَّه اشتَهرَ في شِراءِ الأعيانِ؛ فهنا يُعتَبَرُ المَعنى)
[4815] ينظر للمعنى الإجمالي: ((تهذيب سنن أبي داود)) لابن القيم (2/447)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/174)، ((المنثور)) للزركشي (2/371)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/325)، ((النجم الوهاج)) للدميري (5/322)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/21)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 55). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الكُبرى: (الأُمورُ بمَقاصِدِها).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا قال شَخصٌ لآخَرَ: وهَبتُك هذه الفرَسَ أوِ الدَّارَ بمِائةِ جُنَيهٍ، فإنَّه يَكونُ هذا العَقدُ عَقدَ بَيعٍ لا عَقدَ هبةٍ، وتَجري فيه أحكامُ البَيعِ، فإذا كان المَبيعُ عَقارًا تَجري فيه أحكامُ الشُّفعةِ وغَيرِها مِن أحكامِ البَيعِ
[4816] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/21). .
2- إذا دَفعَ رَجُلٌ إلى غَيرِه ألفَ دِرهَمٍ، فقال: خُذها مُعاوَضةً بالنِّصفِ أو مُعامَلةً بالنِّصفِ، فهيَ مُضارَبةٌ جائِزةٌ؛ لأنَّ العِبرةَ في العُقودِ للمَعاني دونَ الألفاظِ. ولَو قال: خُذْها على أنَّ ما رَزَقَ اللهُ تَعالى فيها مِن شَيءٍ فهو بَينَنا، ولَم يَزِدْ على هذا، فهو مُضارَبةٌ جائِزةٌ بالنِّصفِ؛ لأنَّه أتى بلَفظٍ يُؤَدِّي مَعنى هذا العَقدِ؛ لأنَّ كَلِمةَ (بَين) تَنصيصٌ على الاشتِراكِ، ومُطلَقُ الاشتِراكِ يَقتَضي المُساواةَ، والعِبرةُ في العُقودِ لمَعانيها لا لصُوَرِ الألفاظِ
[4817] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (7/146)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/80). .
3- مَنِ اشتَرى ثوبًا بدَراهمَ فقال للبائِعِ: أمسِكْ هذا الثَّوبَ حَتَّى أُعطيَك الثَّمَنَ، فالثَّوبُ رَهنٌ؛ لأنَّه أتى بما يُنبئُ عن مَعنى الرَّهنِ، وهو الحَبسُ إلى وقتِ الإعطاءِ، والعِبرةُ في العُقودِ للمَعاني
[4818] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/424)، ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/238). .
4- كُلُّ زيادةٍ مَشروطةٍ على القَرضِ رِبًا، بغَضِّ النَّظَرِ عنِ اسمِها، فتَغييرُ الأسماءِ لا يُغَيِّرُ مِن حَقائِقِ المُسَمَّياتِ شَيئًا، فقد صارَ شائِعًا عِندَ كَثيرٍ مِنَ المُتَعامِلينَ بالرِّبا التَّلاعُبُ بالألفاظِ والعِباراتِ مُحاوَلةً مِنهم لتَغييرِ الحَقائِقِ والمُسَمَّياتِ بتَغييرِ أسمائِها فقَط، فيُسَمُّونَ الرِّبا فائِدةً أو رُسومَ خِدماتٍ، والعِبرةُ في العُقودِ بالمَقاصِدِ والمَعاني لا بالألفاظِ والمَباني
[4819] يُنظر: ((فقه التاجر المسلم)) لحسام عفانة (ص: 119). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.تَنبيهاتٌ:1- مَحَلُّ إعمالِ هذه القاعِدةِ عِندَ تَعَذُّرِ العَمَلِ باللَّفظِ، أمَّا إذا لم يَتَعَذَّرْ فلا شَكَّ في اعتِبارِه، فإنَّه ما لم يَتَعَذَّرِ التَّأليفُ بَينَ الألفاظِ والمَعاني المَقصودةِ لا يَجوزُ إلغاءُ الألفاظِ
[4820] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/175)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/325)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/21). .
2- اعتِبارُ المَقاصِدِ والمَعاني في العُقودِ مُقَيَّدٌ بما إذا لم يُعارِضْه مانِعٌ شَرعيٌّ يَمنَعُ اعتِبارَ المَقصَدِ والمَعنى ويَصرِفُه إلى جِهةٍ أُخرى، فلَو عارَضَه تُعتَبَرُ تلك الجِهةُ وإن قَصدَ غَيرِها، ومِثالُ ذلك: أنَّ المُشتَريَ شِراءً فاسِدًا لو رَدَّ المَبيعَ على بائِعِه انفسَخَ البَيعُ السَّابقُ على أيِّ وجهٍ كان رَدُّه، سَواءٌ كان ببَيعٍ جَديدٍ أو بهبةٍ أو صَدَقةٍ أو عاريَّةٍ أو وديعةٍ؛ لأنَّ فسخَ البَيعِ الفاسِدِ ورَدَّ المَبيعِ واجِبٌ شَرعًا، فعلى أيِّ وَجهٍ رَدَّه يَقَعُ عنِ الواجِبِ، ويَبرَأُ عن ضَمانِه. فقد أُلغيَ القَصدُ في هذه التَّصَرُّفاتِ، واعتُبرَ تَسليمُ المَبيعِ للبائِعِ رَدًّا بحُكمِ الفسخِ للعَقدِ الفاسِدِ السَّابقِ
[4821] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 73). .
استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها
[4822] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/22)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 76). :
1- إذا باعَ شَخصٌ شَيئًا لآخَرَ مَعَ نَفيِ الثَّمَنِ بقَولِه: قد بعتُك هذا المالَ بدونِ ثَمَنٍ، فإنَّه يَكونُ البَيعُ باطِلًا، ولا يُعتَبَرُ العَقدُ هِبةً.
2- إذا آجَرَ شَخصٌ آخَرَ فرَسًا بدونِ أُجرةٍ تُصبحُ الإجارةُ فاسِدةً، ولا تَكونُ عاريَّةً؛ لأنَّ الإجارةَ تُفيدُ بَيع المَنفَعةِ بعِوَضٍ، والعاريَّةُ تُفيدُ عَدَمَ العِوَضِ، وبما أنَّ بَينَ مَعنى اللَّفظَينِ تَضادًّا فلا يَجوزُ استِعارةُ لَفظِ الإجارةِ في الإعارةِ.