موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الأصلُ حُرمةُ الانتِفاعِ بمالِ الغَيرِ بغَيرِ إذنِه.


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ حُرمةُ الانتِفاعِ بمالِ الغَيرِ بغَيرِ إذنِه" [4531] يُنظر: ((البناية)) للعيني (7/342). ، وصيغةِ: "لا يَجوزُ الانتِفاعُ بمِلكِ الغَيرِ مِن غَيرِ إذنِه" [4532] يُنظر: ((الفقيه والمتفقهـ)) للخطيب البغدادي (1/528). ، وصيغةِ: "استِعمالُ مالِ الغَيرِ لا يَجوزُ بغَيرِ إذنِ مالكِه" [4533] يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (1/393). ، وصيغةِ: "لا يَجوزُ التَّصَرُّفُ في مِلكِ الغَيرِ بغَيرِ إذنٍ" [4534] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/ 234). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
كُلُّ مَن عَصَمَ الشَّرعُ أموالَه مُسلمًا كان أو ذِمِّيًّا لا يَجوزُ الانتِفاعُ بها مِن غَيرِ إذنٍ صَريحٍ مِنه أو دَلالةٍ على الإذنِ، سَواءٌ كان في هذا الانتِفاعِ مَضَرَّةٌ بالمالِ أو لا؛ احتِرامًا مِنَ الشَّرعِ لأموالِ النَّاسِ، إلَّا في حالةِ الضَّرورةِ، فحينَئِذٍ يَجوزُ الانتِفاعُ بمِلكِ الغَيرِ بغَيرِ إذنِه [4535] يُنظر: ((الفقيه والمتفقهـ)) للخطيب البغدادي (1/528)، ((المفاتيح)) للمظهري (1/393)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (1/312)، ((البناية)) للعيني (7/342). .
ثالثًا: أدلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَحِلُّ مالُ امرِئٍ مُسلمٍ إلَّا بطيبِ نَفسٍ منهـ)) [4536] أخرجه أحمد (20695)، والبزار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (1524) واللفظ له، والبيهقي (11654) من حديثِ حنيفةَ عَمِّ أبي حرَّةَ الرَّقاشيِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7662). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَديثَ نَصٌّ في عَدَمِ جَوازِ الانتِفاعِ بمالِ المُسلمِ إلَّا بطيبِ نَفسِه، وهو مَضمونُ القاعِدةِ [4537] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/88)، ((المفهم)) للقرطبي (4/530). .
- وعَن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَحلُبَنَّ أحَدٌ ماشيةَ امرِئٍ بغَيرِ إذنِه، أيُحِبُّ أحَدُكُم أن تُؤتى مَشرُبَتُه [4538] المَشرُبةُ: بضَمِّ الرَّاءِ هيَ الغُرفةُ، والمَشرَبةُ بالفتحِ: المَوضِعُ الذي يَشرَبُ مِنه النَّاسُ. وقيلَ: المَشرُبةُ والمَشرَبةُ: مَوضِعٌ مُرتَفِعٌ يَخزُنُ الرَّجُلُ فيها مَتاعَه. فشَبَّهَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ضُروعَ المَواشي في حِفظِها الألبانَ على أربابها بالمَشربةِ التي تَحفظُ ما أودِعَت مِن مَتاعٍ ونَحوِه. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لقوام السنة (4/ 254). فتُكسَرَ خِزانَتُه، فيُنتَقَلَ طَعامُه؟ فإنَّما تُخزَنُ لَهم ضُروعُ مَواشيهم أطعِماتِهم، فلا يَحلُبَنَّ أحَدٌ ماشيةَ أحَدٍ إلَّا بإذنِهـ)) [4539] أخرجه البخاري (2435) واللفظ له، ومسلم (1726). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنَعَ مِن حَلبِ ماشيةِ أحَدٍ والانتِفاعِ بها إلَّا بإذنِه، وهو مَعنى القاعِدةِ [4540] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/558)، ((المفهم)) للقرطبي (5/194)، ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (15/543). .
2- مِنَ الإجماع:
ومِمَّن نَقَلَه: ابنُ بَطَّالٍ [4541] قال: (أجمَعَ العُلَماءُ أنَّه لا يَجوزُ كَسرُ قُفلِ مُسلمٍ ولا ذِمِّيٍّ، ولا أخذُ شَيءٍ مِن مالِه بغَيرِ إذنِهـ). ((شرح صحيح البخاري)) (6/558). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- البناءُ في أرضِ الغَيرِ، والحَملُ على دابَّةِ الغَيرِ: لا يَجوزُ إلَّا بإذنِه [4542] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (4/151). .
2- ليس للجارِ أن يَفتَحَ في حائِطِ جارِه ولا الحائِطِ المُشتَرَكِ نافِذةً إلَّا بإذنِ صاحِبه؛ لأنَّ ذلك انتِفاعٌ بمِلكِ الغَيرِ فلَم يَجُزْ بغَيرِ إذنِه، لا سيَّما إذا كان يَضُرُّ ببنائِه ويُضعِفُه، وأمَّا كَونُه له ذلك مَعَ الإذنِ فلأنَّ الحَقَّ له، فإذا أذِنَ في إسقاطِه سَقَطَ [4543] يُنظر: ((الممتع)) لابن المنجي (2/621). .
3- يَحرُمُ التَّيَمُّمُ بكُلِّ تُرابٍ حَرَّمَ الشَّارِعُ استِعمالَه، كالمَغصوبِ والمَسروقِ؛ لما فيه مِنِ استِعمالِ مِلكِ الغَيرِ بغَيرِ إذنِه، وهو لا يَجوزُ [4544] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للرملي (ص: 224). .
خامسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استثناءٌ:
قال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (الانتِفاعُ بمِلكِ الغَيرِ بغَيرِ إذنِه مِن غَيرِ ضَرورةٍ مَنهيٌّ عَنه، إلَّا رُكوبَ الهَديِ المَنذورِ للفُقَراءِ، ودَرَّه الفاضِلَ عَن ولَدِه [4545] أي: يَجوزُ للضَّرورةِ دَرُّ حَلبِ اللَّبَنِ الفاضِلِ عَن حاجةِ ولَدِ الدَّابَّةِ المَنذورةِ للفُقَراءِ. قال النَّوويُّ: (المَشهورُ مِن مَذهَبنا جَوازُ شُربِ ما فضَلَ مِن لَبَنِ الهَدْيِ عَنِ الولَدِ). ((المجموع)) (8/ 368). ،كذلك قدرُ الزَّكاةِ مِنَ الأنعامِ [4546] أي: كذلك يُصنَعُ بالقَدرِ المُخرَجِ مِن زَكاةِ الأنعامِ، أي في جَوازِ الانتِفاعِ به للضَّرورةِ، وإن كان مِلكًا للفُقَراءِ. ؛ فإنَّ الانتِفاعَ به جائِزٌ، وإن جَعَلناه مِلكًا للفُقَراءِ) [4547] ((قواعد الأحكام)) (2/174). .

انظر أيضا: