موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: المُحَرَّمُ لا يَحِلُّ مِلكُه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المُحَرَّمُ لا يَحِلُّ مِلكُه" [4503] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/482). ، وصيغةِ: "مَتى حُرِّمَ شَيءٌ فحَرامٌ مِلكُه" [4504] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/491). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الشَّيءُ الذي حَرَّمَه الشَّرعُ سَواءٌ حَرَّمَه لذاتِه أو لوصفٍ مِن أوصافِه يَحرُمُ تَمَلُّكُه أيضًا، سَواءٌ كان التَّمَلُّكُ بالشِّراءِ أو بالهبةِ أو بأيِّ وسيلةٍ مِن وسائِلِ التَّمَلُّكِ الأُخرى، فالأشياءُ المُحَرَّمةُ لذاتِها يَحرُمُ تَمَلُّكُها؛ لأنَّ التَّمَلُّكَ يُؤَدِّي إلى استِعمالِ الشَّيءِ المُحَرَّمِ، وهذا يَتَنافى مَعَ مَقاصِدِ الشَّريعةِ التي تَهدِفُ إلى اجتِنابِ المُحَرَّماتِ، وإذا حَرُمَ تَمَلُّكُها لَم يَثبُتْ لمَن هيَ بيَدِه ما يَتَرَتَّبُ على التَّمَلُّكِ مِن آثارٍ، كالمُعاوضةِ والضَّمانِ ونَحوِهما، وهناكَ أشياءُ حَرَّمَ الشَّارِعُ بَعضَ وُجوهِ الانتِفاعِ بها دونَ بَعضٍ كالحُمُرِ الأهليَّةِ والبغالِ حَرُمَ أكلُها وأُبيحَ رُكوبُها، فمِثلُ هذه لا يَحرُمُ تَمَلُّكُها، فإنَّ أكلَ ثَمَنِها وبَيعَها جائِزٌ بالإجماعِ، فالحاصِلُ أنَّ ما حَرُمَ الانتِفاعُ به فإنَّه يَحرُمُ الانتِفاعُ ببَيعِه، وأكلُ ثَمَنِه، ويَحرُمُ تَمَلُّكُه [4505] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/491)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/482)، ((فتح القريب)) لحسن الفيومي (10/179). .
ثالثًا: أدلَّةُ القاعِدةِ.
دلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، ومن ذلك:
1- عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: أنَّ رَجُلًا أهدى لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم راويةَ خَمرٍ، فقال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "هَل عَلمتَ أنَّ اللَّهَ قد حَرَّمَها؟" قال: لا، قال: فسارَّ إنسانًا، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "بمَ سارَرتَه؟" قال: أمَرتُه ببَيعِها، قال: "إنَّ الذي حَرَّمَ شُربَها حَرَّمَ بَيعَها"، قال: ففتَحَ المِزادةَ حَتَّى ذَهَبَ ما فيها [4506] أخرجه مسلم (1579). .
2- عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: كُنتُ ساقيَ القَومِ في مَنزِلِ أبي طَلحةَ، وكان خَمرُهم يَومَئِذٍ الفضيخَ [4507] الفضيخُ: هو شَرابٌ يُتَّخَذُ مِنَ البُسرِ وحدَه مِن غَيرِ أن تَمَسَّه النَّارُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/ 429)، والبُسرُ: هو المَرحَلةُ الرَّابعةُ لثَمَرةِ النَّخل، أوَّلُها طَلعٌ، ثُمَّ حَلالٌ، ثُمَّ بَلَحٌ، ثُمَّ بُسرٌ، ثُمَّ رُطَبٌ. يُنظر: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (20/ 141). ، فأمَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُناديًا يُنادي: ألا إنَّ الخَمرَ قد حُرِّمَت، قال: فقال لي أبو طَلحةَ: اخرُج فأهرِقْها، فخَرَجتُ فأهرَقتُها، فجَرَت في سِكَكِ المَدينةِ، فقال بَعضُ القَومِ: قد قُتِلَ قَومٌ وهيَ في بُطونِهم! فأنزَلَ اللهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المائدة: 93] الآية) [4508] أخرجه البخاري (2464) واللفظ له، ومسلم (1980). .
وَجهُ الدَّلالةِ من الحديثَينِ:
أنَّ سَكبَهم للخَمرِ في الطَّريقِ حينَما حُرِّمَت فهمٌ مِنهم بأنَّه لا يَصِحُّ تَمَلُّكُها؛ إذ لَو صَحَّ لَما سَكَبوها ولَعاتَبَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إضاعةِ المالِ، قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (وفيه أنَّ المُحَرَّمَ لا يَحِلُّ مِلكُه، وأنَّ الخَمرَ لا يَستَقِرُّ عليها مِلكُ مُسلمٍ بحالٍ) [4509] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/482). .
3- عَن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ عامَ الفتحِ وهو بمَكَّةَ: ((إنَّ اللَّهَ ورَسولَه حَرَّمَ بَيعَ الخَمرِ والمَيتةِ والخِنزيرِ والأصنامِ"، فقيلَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ شُحومَ المَيتةِ؛ فإنَّها يُطلى بها السُّفُنُ، ويُدهَنُ بها الجُلودُ، ويَستَصبِحُ بها النَّاسُ [4510] الاستِصباحُ: استِفعالٌ مِنَ المِصباحِ، وهو السِّراجُ، يُقالُ: استَصبَحَ القَومُ، أي: طَلَبوا الضِّياءَ. والمُرادُ: يَجعَلونَها في سُرُجِهم فيَستَضيئونَ بها. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لقوام السنة (4/156). ؟ فقال: لا، هو حَرامٌ، ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ ذلك: قاتَلَ اللهُ اليَهودَ؛ إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحومَها جَمَلوه [4511] أي: أذابوه مِن جُملةِ الشَّحمِ، أجمَلَه جَملًا وإجمالًا: إذا أذَبتَه واستَخرَجتَ دُهنَه. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (12/ 56). ، ثُمَّ باعوه، فأكَلوا ثَمَنَه )) [4512] أخرجه البخاري (2236) واللفظ له، ومسلم (1581). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ: أنَّ اللَّهَ تَعالى حَرَّمَ الشُّحومَ على اليَهودِ فاستَحَلُّوا بَيعَها، فأنكَرَ ذلك عليهم أشَدَّ الإنكارِ؛ إذ خَصُّوا التَّحريمَ ولَم يَحمِلوه على عُمومِه، فصَحَّ بهذا أنَّه مَتى حُرِّمَ شَيءٌ فحَرامٌ مِلكُه، وبَيعُه، والتَّصَرُّفُ فيه، وأكلُه، إلَّا أن يَأتيَ نَصٌّ بتَخصيصِ شَيءٍ مِن ذلك فيوقَفُ عِندَه، وقد حَرَّمَ اللهُ تَعالى: الخِنزيرَ، والخَمرَ، والمَيتةَ، والدَّمَ، فحَرُمَ مِلكُ كُلِّ ذلك، وشُربُه، والانتِفاعُ به، وبَيعُه [4513] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/491)، ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/1106). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الخِنزيرُ لَمَّا حَرَّمَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ حَرُمَ مِلكُه، فلا يَدخُلُ في مِلكِ المُسلمِ بالمُعاوضةِ، ولَو أتلَفه على مُسلمٍ لا يَضمَنُه [4514] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/491). .
2- الخَمرُ لَمَّا حَرَّمَها اللهُ عَزَّ وجَلَّ حَرُمَ مِلكُها، فلا تَدخُلُ في مِلكِ المُسلمِ بالمُعاوضةِ، ولَو أتلَفها على مُسلمٍ لا يَضمَنُها [4515] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/491)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/482). .
3- صَيدُ الحَرَمِ لا يَملكُه المُحرِمُ بسَبَبٍ اختياريٍّ؛ لأنَّه مُحَرَّمٌ عليه الصَّيدُ، فلا يملكُ به، ومَحَلُّ كَونِ الصَّيدِ الحَرَميِّ لا يُملَكُ إن صيدَ في الحَرَمِ، أمَّا إذا صيدَ في الحِلِّ فإنَّه يُملَكُ [4516] يُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 170)، ((حاشية الجمل على فتح الوهاب)) (5/244). .
خامسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استثناءٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما إذا كان التَّحريمُ مُتَعَلِّقًا بالشَّيءِ مِن جِهةٍ مِنها دونَ جِهةٍ، ومِن ذلك المَيتةُ؛ فإنَّ لَحمَها حَرامٌ، أمَّا جِلدُها فمُباحٌ إذا دُبغَ؛ ولذلك يَقَعُ المِلكُ عليه، وكَذلك الذَّهَبُ والحَريرُ بالنِّسبةِ للرِّجالِ، فإنَّما تَحريمُهما عليهم إنَّما هو مِن جِهةِ اللُّبسِ، فلا حَرَجَ في تَمَلُّكِهم لَهما، وكَما في الحُمُرِ والبغالِ؛ فإنَّ المُحَرَّمَ إنَّما هو أكلُها دونَ رُكوبها والانتِفاعِ بها في أغراضٍ أُخرى، فجازَ تَمَلُّكُها والمُعاوضةُ عليها. قال ابنُ رُشدٍ في بَيانِ حُجَّةِ مَن أباحَ بَيعَ الزَّيتِ المُتَنَجِّسِ: (وعُمدةُ مَن أجازَه: أنَّه إذا كان في الشَّيءِ أكثَرُ مِن مَنفعةٍ واحِدةٍ وحُرِّمَ مِنه واحِدةٌ مِن تلك المَنافِعِ أنَّه ليس يَلزَمُه أن يَحرُمَ مِنه سائِرُ المَنافِعِ، ولا سيَّما إذا كانتِ الحاجةُ إلى المَنفعةِ غَيرِ المُحَرَّمةِ كالحاجةِ إلى المُحَرَّمةِ، فإذا كان الأصلُ هذا يَخرُجُ مِنه الخَمرُ والمَيتةُ والخِنزيرُ، وبَقيَت سائِرُ مُحَرَّماتِ الأكلِ على الإباحةِ -أعني: أنَّه إن كان فيها مَنافِعُ سِوى الأكلِ فبيعَت لهذا- جازَ) [4517] ((بداية المجتهد)) (3/ 147). ويُنظر أيضًا: ((معلمة زايد)) (14/ 225). .

انظر أيضا: