الفرعُ الأوَّلُ: للإنسانِ أن يَتَصَرَّفَ في مِلكِه كَيفما شاءَ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "للإنسانِ أن يَتَصَرَّفَ في مِلكِه كَيفما شاءَ"
[4385] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/94). ، وصيغةِ: "كُلٌّ يَتَصَرَّفُ في مِلكِه كَيفما شاءَ"
[4386] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 230). ، وصيغةِ: "للمالكِ أن يَتَصَرَّفَ في مِلكِه أيَّ تَصَرُّفٍ شاءَ"
[4387] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/264). ، وصيغةِ: "الأصلُ إباحةُ تَصَرُّفِ الإنسانِ في ماله كَيف شاءَ"
[4388] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/260). ، وصيغةِ: "تَصَرُّفُ الإنسانِ في خالصِ حَقِّه لا يَتَوقَّفُ على إجازةِ الغَيرِ"
[4389] يُنظر: ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (5/ 1567). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تَعني هذه القاعِدةُ أنَّ للإنسانِ الحُرِّيَّةَ الكامِلةَ في التَّصَرُّفِ في مِلكِه المُستَقِلِّ كَيفما شاءَ، سَواءٌ بالبَيعِ أوِ الشِّراءِ أوِ الهبةِ أوِ الوقفِ أو غَيرِها مِنَ التَّصَرُّفاتِ، وقَيَّدَها الجُمهورُ مِنَ المالكيَّةِ والشَّافِعيَّةِ والحَنابلةِ بما لا يَضُرُّ بالآخَرينَ، أي: بشَرطِ أن لا يَتَرَتَّبَ على هذا التَّصَرُّفِ ضَرَرٌ بالآخَرينَ، بخِلافِ الحَنَفيَّةِ فأطلَقوا القاعِدةَ وأجازوا للشَّخصِ أن يَتَصَرَّفَ في مِلكِه المُستَقِلِّ كَيفما شاءَ، أي: أنَّه يَتَصَرَّفُ كما يُريدُ باختيارِه ولا يَجوزُ مَنعُه مِنَ التَّصَرُّفِ مِن قِبَلِ أيِّ أحَدٍ إذا لَم يَكُنْ في ذلك ضَرَرٌ فاحِشٌ للغَيرِ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (المِلكُ أقوى مِنَ اليَدِ)
[4390] يُنظر: ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (2/1196،1195)، ((المبسوط)) للسرخسي (15/21) و (23/186)، ((روضة المستبين)) لابن بزيزة (2/1137)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/264)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/353)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/207). .
ثالثًا: أدلَّةُ القاعِدةِ.دلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، ومن ذلك:
عَن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى أنْ لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ )) [4391] أخرجه ابن ماجه (2340)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (22778). حسَّنه النووي في ((بستان العارفين)) (35)، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (9880)، وقال ابن كثير كما في ((الدراري المضية)) للشوكاني (285): مشهورٌ. وذهب إلى تصحيحه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/211)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2340). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه لا ضَرَرَ أعظَمُ مِن أن يُـمنَعَ المَرءُ مِنَ التَّصَرُّفِ في مالِ نَفسِه مُراعاةً لنَفعِ غَيرِه، فهذا هو الضَّرَرُ حَقًّا كما قال ابنُ حَزمٍ
[4392] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/85). .
واستَدَلَّ القائِلونَ بتَقييدِ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ بعَدَمِ الضَّرَرِ بالحَديثِ السَّابقِ أيضًا. ووَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثِ واضِحٌ في أنَّه لا يَحِقُّ لأحَدٍ أن يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بغَيرِه
[4393] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/191)، ((المنتقى)) للباجي (6/46). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ. تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- في القِسمةِ يَملكُ المَقسومُ له جَميعَ التَّصَرُّفاتِ المُختَصَّةِ بالمِلكِ، حَتَّى لَو وقَعَ في نَصيبِ أحَدِ الشُّرَكاءِ ساحةٌ لا بناءَ فيها، ووقَعَ البناءُ في نَصيبِ الآخَرِ، فلصاحِبِ السَّاحةِ أن يَبنيَ في ساحَتِه، ولَه أن يَرفعَ بناءَه، وليس لصاحِبِ البناءِ أن يَمنَعَه؛ لأنَّه يَتَصَرَّفُ في مِلكِ نَفسِه، فلا يُمنَعُ عَنه
[4394] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/28). .
2- لَو حَفرَ إنسانٌ بئرًا في مِلكِه فلَيسَ عليه ضَمانٌ؛ لأنَّ للإنسانِ أن يَتَصَرَّفَ في مِلكِه كَيفما شاءَ، فلا يُعَدُّ تَصَرُّفُه فيه مَهما كان تَعَدِّيًا
[4395] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/94). .
3- البَيعُ يَنعَقِدُ بالإيجابِ والقَبولِ بدونِ أن يَتَوقَّفَ الانعِقادُ على إذنِ أحَدٍ؛ لأنَّ الإنسانَ له حَقُّ التَّصَرُّفِ في مِلكِه كَيفما يَشاءُ، ولا يَحتاجُ في تَصَرُّفِه لإذنِ آخَرَ
[4396] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/136). .
خامسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ. قيودٌ:هذه القاعِدةُ لَيسَت على إطلاقِها، ولَها عِدَّةُ قُيودٍ:
القَيدُ الأوَّلُ: ألَّا يَتَرَتَّبَ على التَّصَرُّفِ مُحَرَّمٌ:
فللمالكِ أن يَتَصَرَّفَ في مِلكِه كَيف يَشاءُ ما لَم يَستَلزِمْ ذلك التَّصَرُّفُ مُحَرَّمًا مِمَّا ورَدَ الشَّرعُ بتَحريمِه
[4397] يُنظر: ((الدرر البهية)) للقنوجي (2/ 472). .
القَيدُ الثَّاني: ألَّا يَتَرَتَّبَ على التَّصَرُّفِ ضَرَرٌ مُتَيَقَّنٌ بالغَيرِ:
فالمالكُ حُرٌّ التَّصَرُّفِ في مِلكِه ما لَم يَكُنْ فيه ضَرَرٌ لغَيرِه بيَقينٍ، فيُمنَعُ مِنه حينَئِذٍ
[4398] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 231)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (6/ 4559). ويُنظر أيضًا: ((العناية)) للبابرتي (9/ 198). .
القَيدُ الثَّالثُ: ألَّا يَتَعَلَّقَ بهذا التَّصَرُّفِ حَقٌّ لآخَرَ:
كَتَصَرُّفِ المَريضِ فيما زادَ عَنِ الثُّلُثِ، فإنَّه يُمنَعُ مِنه إلَّا أن يُجيزَه الورَثةُ
[4399] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/ 385). ، وإذا لَم يَكُنْ وارِثٌ لَم يَتَعَلَّقْ بالمالِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ، فصارَ كَمالِ الصَّحيحِ، يَجوزُ تَصَرُّفُه فيه
[4400] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (8/ 4053). .
القَيدُ الرَّابعُ: ألَّا يَكونَ صاحِبُ التَّصَرُّفِ مَحجورًا عليه:
فلا خِلافَ في أنَّ الحَجرَ يَمنَعُ التَّصَرُّفَ في المالِ بالإتلافِ، فلا يَجوزُ عِتقُه ولا هبَتُه ولا بَيعُه بالمُحاباةِ
[4401] يُنظر: ((روضة المستبين)) لابن بزيزة (2/ 1117). .