موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: المِلكُ أقوى مِنَ اليَدِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "‌المِلكُ ‌أقوى ‌مِن ‌اليَدِ" [4370] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/375)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/226). ، وصيغةِ: "مِلكُ ‌الرَّقَبةِ ‌أقوى ‌من ‌ِمِلكِ ‌اليَدِ" [4371] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/430). ، وصيغةِ: ""المِلكُ ‌مُقدَّمٌ ‌عَلى ‌اليَدِ" [4372] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (13/ 174). ، وصيغةِ: "بَيِّنةُ ‌المِلكِ ‌أقوى ‌مِنَ ‌اليَدِ" [4373] يُنظر: ((المنتقى)) للباجي (6/ 138). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ اليَدَ -وهيَ الحيازةُ الفِعليَّةُ لشَيءٍ ما- أضعَفُ مِنَ المِلكِ؛ فالمِلكُ أقوى مِن مُجَرَّدِ الحيازةِ الفِعليَّةِ، وهيَ بهذا تَفصِلُ قَضايا النِّزاعِ حَولَ المِلكيَّةِ، فتُرَجِّحُ المِلكَ الثَّابتَ بإحدى وسائِلِ إثباتِ المِلكيَّةِ على مُجَرَّدِ الحيازةِ الفِعليَّةِ، فإذا أقامَ أحَدٌ البَيِّنةَ على مِلكِه لشَيءٍ ما فإنَّه يُقدَّمُ على مُجَرَّدِ حيازةِ شَخصٍ لهذا الشَّيءِ؛ لأنَّ المِلكَ أقوى مِنَ اليَدِ [4374] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/375)، ((الهداية)) للمرغيناني (4/430)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/226). .
ثالثًا: أدلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- عَن وائِلِ بنِ حُجرٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ رَجُلٌ مِن حَضرَمَوتَ ورَجُلٌ مِن كِندةَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال الحَضرَميُّ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ هذا قد غَلَبَني على أرضٍ لي كانت لأبي، فقال الكِنديُّ: هيَ أرضي في يَدي أزرَعُها ليس له فيها حَقٌّ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للحَضرَميِّ: ألَكَ بَيِّنةٌ؟ قال: لا، قال: فلَكَ يَمينُه، قال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ الرَّجُلَ فاجِرٌ لا يُبالي على ما حَلَف عليه، وليس يَتَورَّعُ مِن شَيءٍ، فقال: ليس لَكَ مِنه إلَّا ذلك )) [4375] أخرجه مسلم (139). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَديثَ دَلَّ بمَفهومِه أنَّه لَو كان مَعَه بَيِّنةٌ لَقَضى له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم به على صاحِبِ اليَدِ [4376] يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (1/317). .
قال المُلَّا عَلي القاريُّ: (وفيه أنواعٌ مِنَ الفوائِدِ، مِنها: أنَّ صاحِبَ اليَدِ أَولى مِن أجنَبيٍّ يَدَّعي عليه. ومِنها أنَّ المُدَّعى عليه تَلزَمُه اليَمينُ إذا لَم يُقِرَّ، ومِنها: أنَّ البَيِّنةَ تُقدَّمُ على اليَدِ، ويُقضى لصاحِبها بغَيرِ يَمينٍ) [4377] ((مرقاة المفاتيح)) (6/2443). .
2- عَن زَيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَألَه رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطةِ، فقال: ((اعرِف وِكاءَها [4378] المرادُ: الخَيطُ المشدودةُ به. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لقوام السنة (5/ 98). -أو قال وِعاءَها- وعِفاصَها [4379] المرادُ: ظَرفُها الذي هي فيه عندَ التِقاطِها. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لقوام السنة (5/ 98).   ثُمَّ عَرِّفها سَنةً، ثُمَّ استَمتِعْ بها، فإن جاءَ رَبُّها فأدِّها إليه )) [4380] أخرجه البخاري (91) واللفظ له، ومسلم (1722). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ المُلتَقِطَ بأداءِ اللُّقَطةِ إلى مالكِها إن جاءَ يَطلُبُها دونَ اعتِدادٍ بحيازةِ المُلتَقِطِ لَها وكَونِها تَحتَ يَدِه. قال ابنُ بَطَّالٍ: (أجمَعَ أئِمَّةُ الفتوى على أنَّ صاحِبَ اللُّقَطةِ إذا جاءَ بَعدَ الحَولِ أنَّ الذي وجَدَها يَلزَمُه رَدُّها إلَيهـ) [4381] ((شرح صحيح البخاري)) (6/560). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إن ‌ماتَ ‌الغاصِبُ فالمَغصوبُ مِنه أحَقُّ بالمَغصوبِ مِن سائِرِ الغُرَماءِ؛ لأنَّه زالَ مِلكُه ويَدُه بسَبَبٍ لَم يَرضَ به، ولَو زالَ مِلكُه بسَبَبٍ هو راضٍ به كالبَيعِ لا يَنقَطِعُ حَقُّه، وإذا أُزيلَت يَدُه بغَيرِ رِضاه بأن قَبَضَ المُشتَري المَبيعَ بغَيرِ إذنِ البائِعِ فهنا أولى أن لا يَنقَطِعَ حَقُّه؛ لأنَّ المِلكَ أقوى مِن اليَدِ، فإذا لَم يَبطُلْ حَقُّ اليَدِ به فأَولى أن لا يَبطُلَ به حَقُّ المِلكِ [4382] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/87،86)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/226). .
2- إذا مَلَكَ صَيدًا بالاصطيادِ أو بابتياعٍ، ‌وأفلَتَ ‌مِنه لَم يَزُلْ ‌مِلكُه عَنه، سَواءٌ طالَ مُكثُه عَنه أو قَصُرَ، وسَواءٌ بَعُدَ عَنه أو قَرُبَ، وسَواءٌ كان مِنَ الطَّيرِ أوِ الدَّوابِّ؛ لأنَّه يَملكُ الصَّيدَ بالابتياعِ، كما يَملكُه بالاصطيادِ، فلَمَّا لَم يَزُلْ به المِلكُ عَمَّا ابتاعَه بالانفِلاتِ لَم يَزُلْ به المِلكُ عَمَّا صادَه [4383] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/54،53). .
3- المُلتَقِطُ يَملكُ اللُّقَطةَ بَعدَ تَعريفِها سَنةً عِندَ الشَّافِعيَّةِ والمالكيَّةِ، لَكِن إن جاءَ صاحِبُها وجَبَ رَدُّها إلَيه؛ لأنَّ المِلكَ أقوى مِنَ اليَدِ [4384] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/306)، ((روضة القضاة)) لابن السمناني (3/1390)، ((المغني)) لابن قدامة (13/135). .

انظر أيضا: