موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الخامِسَ عَشَرَ: الأجرُ والضَّمانُ لا يَجتَمِعانِ.


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: (الأجرُ والضَّمانُ لا يَجتَمِعانِ) [4360] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/270). ، وصيغةِ: (الأجرُ مَعَ الضَّمانِ لا يَجتَمِعانِ) [4361] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/27). ، وصيغةِ: (الأُجرةُ والضَّمانُ لا يَجتَمِعانِ) [4362] يُنظر: ((شرح مختصر الكرخي)) للقدوري (6/ 471)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/ 147). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الأُجرةُ التي تَجِبُ مُقابلَ الانتِفاعِ بالعَينِ لا تَثبُتُ مَعَ ضَمانِ العَينِ، فلا تَجِبُ الأُجرةُ في الحالِ التي يَجِبُ فيها الضَّمانُ، فإذا وجَبَتِ الأُجرةُ فلا يَجِبُ الضَّمانُ حينَئِذٍ، وإذا وجَبَ الضَّمانُ لا تَجِبُ الأُجرةُ، ويُشتَرَطُ في عَدَمِ اجتِماعِ الأُجرةِ والضَّمانِ اتِّحادُ السَّبَبِ والمَحَلِّ فيهما، فإنِ اختَلَفا فقد يَجتَمِعُ الأجرُ والضَّمانُ؛ لأنَّ سَبَبَ لُزومِ الأجرِ وسَبَبَ الضَّمانِ مُختَلفانِ، فيَلزَمانِ في وقتٍ مَعًا، ولا يُقالُ هنا بأنَّ الضَّمانَ قدِ اجتَمَعَ مَعَ الأجرِ؛ لأنَّ لكُلٍّ سَبَبًا آخَرَ، وهذه القاعِدةُ عِندَ الحَنَفيَّةِ [4363] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/147) و (15/168)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/216)، ((البناية)) للعيني (10/265)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/89،88). ، خِلافًا لغَيرِهم [4364] تَقدَّمَ بَيانُ مذهب الجُمهورِ وقاعِدَتِهم في ذلك، والتي بعُنوان: (ضَمانُ القيمةِ وضَمانُ المَنفعةِ قد يَجتَمِعانِ). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ: المَعقولُ، وذلك على النَّحوِ التَّالي:
1- أنَّه استَوفى مَنفعةً مِن مِلكِ نَفسِه؛ لأنَّه يَتَمَلَّكُ المَضمونَ بالضَّمانِ مُستَنِدًا إلى وقتِ وُجوبِ الضَّمانِ، فلا يَجِبُ عليه الأجرُ فيما استَوفى مِن مَنفَعةِ مِلكِ نَفسِه [4365] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/147). .
2- أنَّ الأجرَ يَستَلزِمُ عَدَمَ التَّعَدِّي، والضَّمانُ يَستَلزِمُه، وتَنافي اللَّوازِمِ يَدُلُّ على تَنافي المَلزوماتِ [4366] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (9/89، 90). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- لَوِ استَأجَرَ بَيتًا ولَم يُسَمِّ ما يَعمَلُ فيه فهو جائِزٌ؛ لأنَّ المَعقودَ عليه مَعلومٌ بالعُرفِ، وهو السُّكنى في البَيتِ، وذلك لا يَتَفاوتُ، فلا حاجةَ إلى تَسميةٍ، وليس له أن يَعمَلَ فيه بأعمالٍ أُخرى تَضُرُّ بالبناءِ، فإن عَمِلَها فانهَدَمَ البَيتُ فهو ضامِنٌ؛ لأنَّه مُتلِفٌ مُتَعَدٍّ، ولا أجرَ عليه فيما ضَمِنَ؛ لأنَّ الأجرَ والضَّمانَ لا يَجتَمِعانِ؛ فإنَّه يَتَمَلَّكُ المَضمونَ بالضَّمانِ مُستَنِدًا إلى وقتِ وُجوبِ الضَّمانِ، فلا يَجِبُ عليه الأجرُ فيما استَوفى مِن مَنفعةِ مِلكِ نَفسِه [4367] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/147). .
2- لَوِ استَأجَرَ قُبَّةً ليَنصِبَها في بَيتِه ويَبيتَ فيها شَهرًا، فهو جائِزٌ، وإن لَم يُسَمِّ البُيوتَ التي يَنصِبُها فيها فالعَقدُ جائِزٌ أيضًا؛ لأنَّ ذلك لا يَختَلِفُ باختِلافِ البُيوتِ، وتَركُ تَعيينِ غَيرِ المُفيدِ لا يُفسِدُ العَقدَ، وإن سَمَّى بَيتًا فنَصَبَها مِن غَيرِه فهو جائِزٌ وعليه الأجرُ؛ لأنَّ هذا تَعيينٌ غَيرُ مُفيدٍ، فالضَّرَرُ لا يَختَلفُ باختِلافِ البُيوتِ، فإن نَصبَها في الشَّمسِ أوِ المَطَرِ كان عليها في ذلك ضَرَرٌ، فهو ضامِنٌ لما أصابَها مِن ذلك؛ لأنَّه مُخالفٌ، فالشَّمسُ تُحرِقُها، والمَطَرُ يُفسِدُها، وإنَّما رَضيَ صاحِبُها بنَصبِها في البَيتِ ليَأمَنَ مِن ذلك، وإذا وجَبَ عليه الضَّمانُ بَطَل الأجرُ؛ لأنَّ الأجرَ والضَّمانَ لا يَجتَمِعانِ، ولأنَّه تَمَلَّكَها بالضَّمانِ مِن حينِ ضَمِنَ [4368] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/168). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
قَيدٌ:
يُشتَرَطُ في عَدَمِ اجتِماعِ الأُجرةِ والضَّمانِ اتِّحادُ السَّبَبِ والمَحَلِّ فيهما، وإلَّا فالاثنانِ قد يَلزَمانِ في وقتٍ واحِدٍ مَعًا، ومِثالُ ذلك:
لَو أجَّرَ شَخصٌ دابَّةً مِن آخَرَ ليَركَبَها وحدَه إلى مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، فرَكب الرَّجُلُ وحَمَل شَخصًا آخَرَ ولَو صَغيرًا (بحَيثُ يَستَطيعُ الوُقوفَ بنَفسِهـ) فتَلِفَتِ الدَّابَّةُ بَعدَ الوُصولِ إلى المَحَلِّ المَقصودِ، يُنظَرُ؛ فإذا كانتِ الدَّابَّةُ قادِرةً على حَملِ الاثنَينِ يَلزَمُ الأجرُ المُسَمَّى مَعَ ضَمانِ نِصفِ قيمَتِها، فيَلزَمُ الأجرُ على المُستَأجِرِ؛ لأنَّه قدِ استَوفى المَنفعةَ المُرادةَ مِنِ استِئجارِها بوُصولِه للمَكانِ المَقصودِ، ويَلزَمُ ضَمانُ نِصفِ قيمَتِها؛ لأنَّه يَكونُ قد تَعَدَّى بحَملِه شَخصًا مَعَه، والحاصِلُ أنَّه لَمَّا كان سَبَبُ لُزومِ الأجرِ وسَبَبُ الضَّمانِ مُختَلفينَ فإنَّهما يَلزَمانِ مَعًا، ولا يُقالُ بأنَّ الضَّمانَ قدِ اجتَمَعَ والأجرَ؛ فلكُلٍّ سَبَبٌ غَيرُ سَبَبِ الآخَرِ [4369] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/ 90). .

انظر أيضا: