المَبحَثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: جِنايةُ الإنسانِ على نَفسِه ومالِه هَدَرٌ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: (جِنايةُ الإنسانِ على نَفسِه ومالِه هَدَرٌ)
[4336] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (27/55) وعبارته: (وجنايته على نفسه وعلى مال نفسه هدر). ، وصيغةِ: (جِنايةُ الإنسانِ على نَفسِه مُهدَرةٌ)
[4337] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (16/539). ، وصيغةِ: (جِنايةُ المَرءِ على نَفسِه هَدَرٌ)
[4338] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (21/172). ، وصيغةِ: (جِنايةُ الإنسانِ على نَفسِه هَدَرٌ)
[4339] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/301). ، وصيغةِ: (جِنايةُ الإنسانِ على مِلكِ نَفسِه لا توجِبُ ضَمانًا)
[4340] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (2/223). ، وصيغةِ: (جِنايةُ الإنسانِ على مِلكِ نَفسِه غَيرُ مَضمونةٍ)
[4341] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/302). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. إضرارُ الإنسانِ بنَفسِه أو تَعَدِّيه على عُضوٍ مِن أعضائِه أو مالِه هَدَرٌ، أي: لا اعتِبارَ للضَّرَرِ الذي وقَعَ، ولا يَتَرَتَّبُ عليه أثَرٌ ماليٌّ، فلا تَعويضَ ولا ضَمانَ على جِنايةِ الإنسانِ على نَفسِه أو على مالِه باتِّفاقٍ إن وَقَع ذلك عَمدًا، وكَذا لَو وقَعَ على سَبيلِ الخَطَأِ عِندَ الجُمهورِ، وفي رِوايةٍ عِندَ الحَنابلةِ أنَّ جِنايةَ الإنسانِ على نَفسِه على سَبيلِ الخَطَأِ لا تَكونُ هَدَرًا، بَل تَكونُ مَضمونةً تَتَحَمَّلُها العاقِلةُ ويُؤَدُّونَها إليه، وجِنايةُ الإنسانِ على نَفسِه عَمدًا كَجِنايَتِه على غَيرِه في الإثمِ؛ لأنَّ نَفسَه ليست مِلكًا له، وإنَّما هيَ مِلكٌ للهِ تعالى، فلا يتَصَرَّفُ فيها إلَّا بما أذِنَ له فيه
[4342] يُنظر: ((الروايتين والوجهين)) لأبي يعلى (2/289،288)، ((النتف في الفتاوى)) للسغدي (2/744)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (16/538)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/261)، ((الكافي)) لابن قدامة (4/39). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ: السُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((خَرَجنا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى خَيبَرَ، فسِرنا ليلًا، فقال رَجُلٌ مِنَ القَومِ لعامِرٍ: يا عامِرُ، ألَا تُسمِعُنا مِن هُنَيهاتِك؟ وكان عامِرٌ رَجُلًا شاعِرًا، فنَزَلَ يَحدو بالقَومِ... فلمَّا تَصافَّ القَومُ كان سَيفُ عامِرٍ قَصيرًا فتَناوَل به ساقَ يَهوديٍّ ليَضرِبَه، ويَرجِعُ ذُبابُ سَيفِه، فأصابَ عَينَ رُكبةِ عامِرٍ، فماتَ مِنه... فلَمَّا رَآني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاحِبًا قال: ما لك؟ قُلتُ له: فداك أبي وأُمِّي، زَعَموا أنَّ عامِرًا حَبِطَ عَمَلُه! قال: مَن قاله؟ قُلتُ: فُلانٌ وفُلانٌ، وأُسيَدُ بنُ حُضَيرٍ الأنصاريُّ، فقال: كَذَبَ مَن قاله، إنَّ له لأجرَينِ، -وجَمع بَينَ إصبَعَيه- إنَّه لَجاهِدٌ مُجاهِدٌ )) [4343] أخرجه البخاري (6148)، ومسلم (1802) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَقضِ بالدِّيةِ في مالِه ولا عاقِلَتِه، فلَو كانت واجِبةً لَقَضى بذلك
[4344] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/358). .
ثانيًا: مِنَ المَعقولِ: وهو أنَّه جَنى على نَفسِه فلَم يَضمَنْ كالعَمدِ؛ لأنَّ حَملَ العاقِلةِ إنَّما كان مَعونةً له على الضَّمانِ للغَيرِ، ولا يَتَحَقَّقُ هاهنا
[4345] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/39). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا كان الرَّجُلُ يَتَعاطى أمرًا فأفضَت آلةٌ كانت في يَدِه إلى طَرَفٍ مِن أطرافِه وأفسَدَته، فهذه جِنايةٌ مِنه على نَفسِه، وهيَ هَدَرٌ، وقال أحمَدُ وإسحاقُ: إذا جَنى على طَرَفِ نَفسِه جِنايةً خَطأً وجَبَ الأَرْشُ على عاقِلَتِه له، يَستَوفيه مِنهم لنَفسِه
[4346] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (4/307)، ((الروايتين والوجهين)) لأبي يعلى (2/289،288)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (16/538). .
2- إذا نَصَبَ القَومُ مِدفَعًا فرَمَوا به فرَجَعَتِ القَذيفةُ على أحَدِهم فقَتَلَته فدِيَتُه على عَواقِلِ الذينَ رَمَوا بالمِدفَعِ، فإن كان مِمَّن رَمى به مَعَهم رُفِعَت حِصَّتُه مِنَ الدِّيةِ، ولا يَضمَنُ هو ولا عاقِلَتُه عَمَّا جَنى على نَفسِه
[4347] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (4/307). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ: قال الزَّركَشيُّ: (قد يَضمَنُ الإنسانُ ما أتلَفَه مِن مالِ نَفسِه؛ إمَّا لتَعَلُّقِ حَقِّ اللهِ تعالى به، أو حَقِّ الآدَميِّ.
فمِنَ الأوَّلُ: المُحْرِمُ إذا قَتَلَ صَيدَ نَفسِه أو قَطعَ شَعرَ نَفسِه أو حَلَقَه، والسَّيِّدُ إذا قَتَلَ عَبدَه تَجِبُ فيه الكَفَّارةُ، وكَذا إذا قَتَلَ نَفسَه.
ومِنَ الثَّاني: الرَّاهنُ إذا أتلَف المَرهونَ يَضمَنُه بالبَدَلِ، ويَكونُ رَهنًا مَكانَه، وسَيِّدُ العَبدِ الجاني إذا قَتَلَه عليه أقَلُّ الأمرَينِ مِن قيمَتِه أو أَرْشِ جِنايَتِه، وسَيِّدُ الأَمَةِ المُزَوَّجةِ إذا قَتَلَها قَبلَ الدُّخولِ غَرِم مَهرَ مِثلِها لزَوجِها على قَولٍ.
وقد يَضمَنُ غَيرُه ما باشَرَ هو إتلافَه مِن مِلكِه، كما لَو قال: ألقِ مَتاعَك في البَحرِ وعليَّ ضَمانُه، أو أمَرَه بعِتقِ عَبدِه أو طَلاقِ زَوجَتِه على مالٍ، أو أمَرَه بقَطعِ ثَوبٍ فإذا هو للقاطِعِ، أو ذَبحِ حَيَوانٍ فإذا هو للذَّابحِ، على المَذهَبِ، بخِلافِ ما لَو أكَلَه على المَذهَبِ؛ لأنَّه ذَبح للغاصِبِ، وذلك انتَفعَ بأكلِهـ)
[4348] ((المنثور)) (2/343). .