المَطلَبُ الثَّاني: مِنَ القَواعِدِ المُندَرِجةِ تَحتَ قاعِدةِ الحُرُماتُ قِصاصٌ: أجزِيَةُ الأفعالِ المُحَرَّمةِ تَجِبُ حَقًّا للهِ تعالى
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: (أجزِيَةُ الأفعالِ المُحَرَّمةِ تَجِبُ حَقًّا للهِ تعالى)
[4273] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/63). ، وصيغةِ: (الجَزاءُ على الأفعالِ المُحَرَّمةِ مِنَ العِبادِ يَكونُ حَقًّا للهِ تعالى)
[4274] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/133). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. حَدَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ حُدودًا وحَرَّمَ على عِبادِه تَجاوُزَها، سَواءٌ كانت هذه الحُدودُ لمَصلَحةِ العَبدِ، أو لأجلِ المُحافَظةِ على المُجتَمَعِ وصيانَتِه في أمنِه وحُرُماتِه، ووَضَع عُقوباتٍ لمَن تجاوَزَ هذه الحُدودَ. وهذه العُقوباتُ على الأفعالِ المُحَرَّمةِ هيَ حَقٌّ للهِ تعالى، وهذا ما تُفيدُه القاعِدةُ أنَّ العُقوباتِ المُقَرَّرةَ شَرعًا في ارتِكابِ المُحَرَّماتِ سَواءٌ كانت أقوالًا أو أفعالًا هيَ حَقٌّ للهِ تعالى، ما لَم يُصَرِّحِ الشَّرعُ بأنَّ فيه حَقًّا للعَبدِ يَجوزُ العَفوُ عنه أوِ الصُّلحُ كالقِصاصِ، وقدِ انفرَدَ بالنَّصِّ على هذه القاعِدةِ السَّرَخسيُّ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (الحُرُماتُ قِصاصٌ)
[4275] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/133) و (26/63). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ: عَن عائِشةَ رِضى اللَّه عنها:
((أنَّ قُرَيشًا أهَمَّهم شَأنُ المَرأةِ المَخزوميَّةِ التي سَرَقَت، فقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فيها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقالوا: ومَن يَجتَرِئُ عليه إلَّا أُسامةُ بنُ زَيدٍ حِبُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكَلَّمَه أُسامةُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتَشفعُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ؟ ثُمَّ قامَ فاختَطَبَ، ثُمَّ قال: إنَّما أهلَكَ الذينَ قَبلَكُم أنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهمُ الشَّريفُ تَرَكوه، وإذا سَرَقَ فيهمُ الضَّعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايمُ اللهِ لَو أنَّ فاطِمةَ ابنةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَت لَقَطَعتُ يَدَها )) [4276] أخرجه البخاري (3475) واللفظ له، ومسلم (1688). .
وَجهُ الدَّلالةِ: عَدَمُ قَبولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الشَّفاعةَ في الجَزاءِ المُقَرَّرِ شَرعًا في جَريمةِ السَّرِقةِ، وقَولُه لأُسامةَ بنِ زَيدٍ:
((أتَشفَعُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ؟)) يَدُلُّ على أنَّ الأجزِيَةَ المُقَرَّرةَ على ارتِكابِ الفِعلِ المُحَرَّمِ حَقٌّ للهِ تعالى
[4277] يُنظر: ((معلمة زايد)) (12/671). ويُنظر أيضًا: ((المغني)) لابن قدامة (12/ 467)، ((التهذيب)) للبغوي (7/ 334). .
2- مِنَ المَعقولِ: وهو أنَّ الحِكمةَ مِنَ العُقوبةِ هي الانزِجارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ به العِبادُ، وصيانةُ دارِ الإسلامِ عنِ الفسادِ؛ ولهذا كانت حَقًّا للهِ تعالى؛ لأنَّها شُرِعَت لمَصلَحةٍ تَعودُ إلى كافَّةِ النَّاسِ
[4278] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/163). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- الحُدودُ الخالِصةُ للهِ تعالى، والزَّكاةُ، والكَفَّارةُ، ونَحوُ ذلك مِمَّا هو حَقٌّ للهِ تعالى، لا تَفتَقِرُ الشَّهادةُ به إلى تَقدُّمِ الدَّعوى؛ لأنَّ ذلك ليس له مُستَحِقٌّ مُعَيَّنٌ مِنَ الآدَميِّينَ يَدَّعيه ويُطالِبُ به، بَل هو حَقٌّ للهِ تعالى
[4279] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (14/209). .
2- مَن قَتَلَ وهو مُحْرِمٌ صَيدًا مِن صَيدِ البَرِّ عامِدًا أو مُخطِئًا، فداه بنَظيرِه مِنَ النَّعَمِ، إن كان المَقتولُ دابَّةً، وهو حَقٌّ للهِ تعالى لا مَجالَ للرَّأيِ فيه؛ لأنَّ أجزِيَةَ الأفعالِ المُحَرَّمةِ حَقٌّ للهِ تعالى
[4280] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/395). .
3- مَن زَنَا وهو مُحصَنٌ، وثَبَتَ عليه ذلك بالإقرارِ أوِ البَيِّنةِ، فإنَّه يُرجَمُ حَتَّى المَوتِ، ولا يَجوزُ تَغييرُ ذلك بأن يَتَصالَحا على شَيءٍ؛ لأنَّ ذلك حَقٌّ للهِ تعالى لا يَجوزُ تَغييرُه
[4281] يُنظر: ((اختلاف الحديث)) للشافعي (8/644)، ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/1317). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش