موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ السَّادِسُ: فاسِدُ كُلِّ عِقدٍ كَصَحيحِه في الضَّمانِ وعَدَمِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "فاسِدُ كُلِّ عَقدٍ كَصَحيحِه في الضَّمانِ وعَدَمِه" [4179] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/307)، ((المنثور)) للزركشي (3/8)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/464). ، وصيغةِ: "الفاسِدُ مُعتَبَرٌ بالجائِزِ في حُكمِ الضَّمانِ" [4180] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (21/65). ، وصيغةِ: "حُكمُ فاسِدِ العُقودِ حُكمُ صَحيحِها في الضَّمانِ" [4181] يُنظر: ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 117). ، وصيغةِ: "حُكمُ العُقودِ الفاسِدةِ حُكمُ الصَّحيحةِ في الضَّمانِ" [4182] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (7/308). ، وصيغةِ: "فاسِدُ العُقودِ في الضَّمانِ كَصَحيحِها" [4183] يُنظر: ((قضاء الأرب في أسئلة حلب)) للسبكي (ص: 327). ، وصيغةِ: "كُلُّ عَقدٍ يَجِبُ الضَّمانُ في صَحيحِه يَجِبُ الضَّمانُ في فاسِدِه، وكُلُّ عَقدٍ لا يَجِبُ الضَّمانُ في صَحيحِه لا يَجِبُ في فاسِدِهـ)) [4184] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/307). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ حُكمَ العُقودِ الفاسِدةِ حُكمُ الصَّحيحةِ في أصلِ الضَّمانِ، فما ضُمِنَ صَحيحُه ضُمِنَ فاسِدُه، وما لا يُضمَنُ صَحيحُه لا يُضمَنُ فاسِدُه، فما اقتَضى صَحيحُه الضَّمانَ بَعدَ التَّسليمِ -كالبَيعِ والقَرضِ والإجارةِ والعاريَّةِ- فيَقتَضي فاسِدُه أيضًا الضَّمانَ؛ لأنَّه أولى بذلك، وما لا يَقتَضي صَحيحُه الضَّمانَ بَعدَ التَّسليمِ -كالرَّهنِ والعَينِ المُستَأجَرةِ، والأماناتِ، كالوديعةِ والهبةِ والصَّدَقةِ- لا يَقتَضيه فاسِدُه أيضًا، وليس المُرادُ مِن كَونِ الفاسِدِ كالصَّحيحِ في الضَّمانِ أنَّه يَجِبُ فيه المُسَمَّى كما في الصَّحيحِ، بَل المُرادُ أنَّه مِثلُه في أصلِ الضَّمانِ، وتَجِبُ فيه قيمةُ المِثلِ، لا خُصوصُ المُسَمَّى [4185] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (7/308)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/307)، ((المنثور)) للزركشي (3/8). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، ومِن ذلك:
عَن عائِشة رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أيُّما امرَأةٍ نَكَحَت بغَيرِ إذنِ مَواليها فنِكاحُها باطِلٌ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فإن دَخل بها فالمَهرُ لَها بما أصابَ مِنها، فإن تَشاجَروا فالسُّلطانُ وَليُّ مَن لا وَليَّ له )) [4186] أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879). صَحَّحَه ابنُ مَعينٍ، والإمامُ أحمد كما في ((المقرر على أبواب المحرر)) ليوسف بن ماجد (2/112)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (4074)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (2744)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/105)، وابن الجوزي كما في ((تنقيح التحقيق)) لمحمد ابن عبد الهادي (4/286)، والقرطبي المفسر في ((التفسير)) (3/464)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/553)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (9/97)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (3/21)، وقال أبو موسى المديني في ((اللطائف)) (556): ثابتٌ مَشهورٌ يُحتَجُّ به. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوجَبَ لَها المَهرَ في فاسِدِ النِّكاحِ كصَحيحِه، ويُقاسُ عليه غَيرُه مِنَ العُقودِ [4187] يُنظر: ((الشافي في شرح مسند الشافعي)) لابن الأثير (4/339)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/31)، ((معلمة زايد)) (14/472). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لَو فسَدَ الرَّهنُ كانت يَدُ المُرتَهِنِ يَدَ أمانةٍ أيضًا؛ لأنَّ فاسِدَ العُقودِ في الضَّمانِ كصَحيحِها [4188] يُنظر: ((قضاء الأرب في أسئلة حلب)) للسبكي (ص: 327)، ((عجالة المحتاج)) لابن الملقن (2/767). .
2- إذا وُهِبَ ما لا تَصِحُّ هبَتُه فتَلِفَ في يَدِ المَوهوبِ له فلا ضَمانَ عليه، ووَجهُه أنَّ الهبةَ الصَّحيحةَ لا ضَمانَ فيها على القابضِ، وفاسِدُ كُلِّ عَقدٍ كَصَحيحِه في الضَّمانِ وعَدَمِه [4189] يُنظر: ((المهمات في شرح الروضة والرافعي)) للإسنوي (2/290)، ((النجم الوهاج)) للدميري (1/446). .
3- إذا وطِئَ امرَأةً في نِكاحٍ فاسِدٍ فإنَّه يَلزَمُه المَهرُ، ولا يَلزَمُه أَرْشَ البكارةِ إن كانتِ المَوطوءةُ بِكرًا؛ وذلك للقاعِدةِ: فاسِدُ كُلِّ عِقدٍ كَصَحيحِه في الضَّمانِ وعَدَمِه [4190] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/ 186)، ((المجموع)) للنووي (9/ 371)، ((المنثور)) للزركشي (3/ 9)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 244)، ((حاشية الروض المربع)) لابن قاسم (6/ 399). .
4- إذا استَأجَرَ سَيَّارةً أو نَحوَها إجارةً فاسِدةً فتَلِفَت دونَ تَعَدٍّ أو تَفريطٍ مِنَ المُستَأجِرِ لَم يَضمَنْ؛ لأنَّ العَينَ أمانةٌ في يَدِ المُستَأجِرِ، والفاسِدُ مُعتَبَرٌ بالصَّحيحِ في الضَّمانِ وعَدَمِه [4191] يُنظر نحوه: ((المبسوط)) للسرخسي (16/ 46)، ((معلمة زايد)) (14/ 474). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
ذَكَرَ الزَّركَشيُّ أنَّه قدِ استُثنيَ مِنَ الطَّردِ والعَكسِ لهذه القاعِدةِ صُوَرٌ [4192] يُنظر: ((المنثور)) (3/10،9). ويُنظر أيضًا: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/307). ، أمَّا الطَّردُ فمِنه:
1- إذا قال: قارَضتُك [4193] القِراضُ: هو المُضارَبةُ، وهيَ أن يَدفعَ شَخصٌ مالَه إلى آخَرَ يَتَّجِرُ له فيه، على أنَّ ما حَصَلَ مِنَ الرِّبحِ يَكونُ بَينَهما حَسَبَ ما يَتَّفِقانِ عليه. يُنظر: ((فقه المعاملات المالية)) إعداد الدرر السنية (2/369-370). على أنَّ الرِّبحَ كُلَّه لي، فالصَّحيحُ أنَّه قِراضٌ فاسِدٌ، ومَعَ ذلك لا يَستَحِقُّ العامِلُ أُجرةً في الأصَحِّ.
2- إذا ساقاه [4194] المُساقاةُ: أن يَدفَعَ الرَّجُلُ شَجَرَه إلى آخَرَ ليَقومَ بسَقيِه وعَمَلِ سائِرِ ما يَحتاجُ إليه بجُزءٍ مَعلومٍ له مِن ثَمَرِه. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/527). على أنَّ الثَّمَرةَ جَميعَها لرَبِّ المالِ، فكالقِراضِ.
وأمَّا العَكسُ فصُوَرٌ، مِنها:
1- الشَّرِكةُ؛ فإنَّ صَحيحَها لا يوجِبُ لأحَدِ الشَّريكَينِ على الآخَرِ شَيئًا، وفاسِدُها يوجِبُه.
2- الهِبةُ الصَّحيحةُ لا ضَمانَ فيها، والفاسِدةُ تُضمَنُ على وجهٍ نُقِلَ تَرجيحُه عن بَعضِ الشَّافِعيَّةِ.

انظر أيضا: