المَبحَثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: المَشغولُ لا يُشغَلُ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: المَشغولُ لا يُشغَلُ
[3823] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/139)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/132)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/167)، ((المنثور)) للزركشي (3/174)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 151)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/104)، ((هداية الراغب)) لابن قائد (2/491)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/249). ، وصيغةِ: المَشغولُ لا يَجوزُ شَغلُه
[3824] يُنظر: ((حاشية البجيرمي على شرح المنهج)) (2/370). ، وصيغةِ: المَشغولُ بشَيءٍ لا يَحتَمِلُ الشُّغلَ بغَيرِه
[3825] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/139). ، وصيغةِ: شَغلُ المَشغولِ لا يَجوزُ، بخِلافِ شَغلِ الفارِغِ
[3826] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/412)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 152). ، وصيغةِ: ما أصابَ المَشغولَ لا يَزيدُه شُغلًا، وما أصابَ الفارِغَ يَكونُ له
[3827] يُنظر: ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (4/1463). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الشَّيءَ المَشغولَ بحُكمٍ -أيِ: الذي يَتَعَلَّقُ به حُكمٌ شَرعيٌّ- لا يَقبَلُ أن يَرِدَ عليه حُكمٌ آخَرُ مِن جِنسِه، أو يَتَنافى مَعَ الأوَّلِ؛ لأنَّ المَشغولَ بشَيءٍ لا يَحتَمِلُ الشَّغلَ بغَيرِه، فالمَحَلُّ لا يَحتَمِلُ حُكمَينِ مِن جِنسٍ واحِدٍ، كما أنَّ الذي يَكونُ مَوقوفَ التَّصَرُّفِ على جِهةٍ مِنَ الجِهاتِ، لا يَصِحُّ أن يُتَصَرَّفَ فيه بتَصَرُّفٍ آخَرَ يَكونُ مُناقِضًا للتَّصَرُّفِ الأوَّلِ
[3828] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/139)، ((المنثور)) للزركشي (2/412) و(3/174)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/747)، ((الرسالة الندية)) لعبدالفتاح مصيلحي (ص: 131). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:- عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((لا يَبِعِ الرَّجُلُ على بَيعِ أخيه، ولا يَخطُبْ على خِطبةِ أخيه، إلَّا أن يَأذَنَ له )) [3829] أخرجه البخاري (5142)، ومسلم (1412) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن ذلك؛ لأنَّ هذه المَرأةَ مَشغولةٌ بالخِطبةِ الأولى، وهذه السِّلعةُ مَشغولةٌ بالبَيعِ الأوَّلِ
[3830] يُنظر: ((الرسالة الندية)) لعبدالفتاح مصيلحي (ص: 131). .
- وعن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: كُنَّا نُسَلِّمُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في الصَّلاةِ، فيَرُدُّ علينا، فلَمَّا رَجَعنا مِن عِندِ النَّجاشيِّ سَلَّمنا عليه فلَم يَرُدَّ علينا، فقُلنا: يا رَسولَ اللهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ عليكَ في الصَّلاةِ فتَرُدُّ علينا. فقال:
((إنَّ في الصَّلاةِ شُغلًا )) [3831] أخرجه البخاري (1199)، ومسلم (538) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ مَن كان في الصَّلاةِ فهو مَشغولٌ بها، فلا يَرُدُّ السَّلامَ؛ لأنَّ المَشغولَ لا يُشغَلُ
[3832] يُنظر: ((سلسلة الفوائد الحديثية والفقهية)) للكردي (10/479). .
2- مِنَ الإجماعِ:وقد حَكاه ابنُ المُنذِرِ على صورةٍ مِن صورِ القاعِدةِ، وهيَ المَنعُ مِن بَيعِ الرَّهنِ وهبَتِه وصَدَقَتِه حَتَّى يَبرَأَ مِن حَقِّ المُرتَهنِ
[3833] قال: (أجمَعوا على أنَّ الرَّاهِنَ مَمنوعٌ مِن بَيعِ الرَّهنِ، وهِبَتِه، وصَدَقَتِه، وإخراجِه مِن يَدِ مَن رَهَنَه حَتَّى يَبرَأَ مِن حَقِّ المُرتَهِنِ). ((الإجماع)) (ص: 101). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- لا يَجوزُ الإحرامُ بالعُمرةِ للعاكِفِ بمِنًى؛ لأنَّه مَشغولٌ بعَمَلٍ، وهو الرَّميُ والمَبيتُ
[3834] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/174)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 151). .
2- لا يَجوزُ إيرادُ عَقدَينِ على عَينٍ في مَحَلٍّ واحِدٍ، فلا يَجوزُ أن يُعقدَ عَقدانِ على شَيءٍ واحِدٍ، مِن وجهٍ واحِدٍ، في وقتٍ واحِدٍ، فلا يَجوزُ أن يُجمَعَ بَينَ الإجارةِ والمُضارَبةِ في وقتٍ واحِدٍ ومِن وجهٍ واحِدٍ. وإذا بيعَت سِلعةٌ فلا يَجوزُ أن تُباعَ هذه السِّلعةُ مَرَّةً أُخرى؛ لأنَّ هذه العَينَ مَشغولةٌ بالبَيعِ الأوَّلِ
[3835] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 151)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/748)، ((الرسالة الندية)) لعبدالفتاح مصيلحي (ص: 131). .
3- مَن رَهَنَ عَينًا مِن إنسانٍ وسَلَّمَها إلَيه، ثُمَّ رَهَنَها مِن آخَرَ، فإنَّه لا يَصلُحُ الثَّاني مَعَ بَقاءِ حَقِّ الأوَّلِ؛ لأنَّ المَشغولَ لا يُشغَلُ
[3836] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/139). ويُنظر أيضًا: ((المنثور)) للزركشي (3/174)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 151). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.تنبيهاتٌ:1- المَشغولُ لا يُشغَلُ مِن جِهةٍ واحِدةٍ وسَبَبٍ واحِدٍ وفي زَمَنٍ واحِدٍ، لَكِن لَوِ اختَلَفَتِ الجِهةُ والسَّبَبُ، أوِ اختَلَفَ الزَّمَنُ، جازَ ذلك، كَأن يُعطى أجرٌ في الصَّباحِ على عَمَلِه كَأجيرٍ، ويُعطى على عَمَلِه مَساءً نِسبةً مِن أرباحِ المَبيعاتِ كَأنَّه شَريكٌ، فهو جائِزٌ؛ لاختِلافِ الزَّمانِ، أو قد يَكونُ ذلك لاختِلافِ السَّبَبِ، كَأن يَستَحِقَّ النِّسبةَ لكَونِه مُشارِكًا في المالِ، ويَستَحِقَّ الأُجرةَ لكَونِه عامِلًا
[3837] يُنظر: ((الرسالة الندية)) لعبدالفتاح مصيلحي (ص: 132). .
2- المَشغولُ لا يُشغَلُ، أمرٌ صَحيحٌ إذا كان الشَّاغِلُ أجنَبيًّا، أمَّا إذا كان الشَّاغِلُ هو الشَّاغِلَ الأوَّلَ، ورَضيَ بذلك، فلا مانِعَ؛ ولِهذا عَمِلَ النَّاسُ على جَوازِ الزِّيادةِ في الدَّينِ، فيَأتي الفَلَّاحُ ويَستَدينُ مِنَ التَّاجِرِ ويَقولُ: أرهَنُكَ الفِلاحةَ بهذا الدَّينِ، ثُمَّ يَستَدينُ مِنه مَرَّةً ثانيةً، ويَقولُ: هذا الدَّينُ داخِلٌ في الرَّهنِ الأوَّلِ، والقُضاةُ يَحكُمونَ بصِحَّةِ ذلك
[3838] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (9/150). .