المَطلَبُ الأوَّلُ: مِن شَرطِ الانتِقالِ إلى الذِّمَّةِ تَعَذُّرُ المُعَيَّنِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: مِن شَرطِ الانتِقالِ إلى الذِّمَّةِ تَعَذُّرُ المُعَيَّنِ
[3772] يُنظر: ((الذخيرة)) (2/38)، ((الفروق)) (2/134) كلاهما للقرافي، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/392). ، وصيغةِ: المُعَيَّنُ لا يَستَقِرُّ في الذِّمَّةِ، وما تَقَرَّرَ في الذِّمَّةِ لا يَكونُ مُعَيَّنًا
[3773] يُنظر: ((القواعد)) للمقري (2/399)، ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/331)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/390). ، وصيغةِ: المُعَيَّنُ لا يَثبُتُ في الذِّمَّةِ
[3774] يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (2/138)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (5/27)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (3/23)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/211). ، وصيغةِ: المُعَيَّناتُ لا تَثبُتُ في الذِّمَمِ، وما في الذِّمَمِ لا يَكونُ مُعَيَّنًا
[3775] يُنظر: ((الذخيرة)) (2/38)، ((الفروق)) (2/134) كلاهما للقرافي. ، وصيغةِ: ما في الذِّمَّةِ هَل يَتَعَيَّنُ أم لا؟
[3776] يُنظر: ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/329). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المُعَيَّناتِ الشَّخصيَّةَ في الخارِجِ، أيِ المَرئيَّةَ بالحِسِّ، لا تَثبُتُ في الذِّمَمِ، فإذا تَعَذَّرَ المُعَيَّنُ صارَ الصَّرفُ إلى نَوعِه. وما في الذِّمَمِ لا يَكونُ مُعَيَّنًا، بَل يَتَعَلَّقُ الحُكمُ فيه بالأُمورِ الكُلِّيَّةِ والأجناسِ المُشتَرَكةِ، فما يَكونُ في ذِمَّةِ أحَدٍ يَخرُجُ عن عُهدَتِه بأداءِ أيِّ فردٍ شاءَ مِن نَوعِه؛ لأنَّ ما لا يَتَعَيَّنُ يَقبَلُ البَدَلَ، والمُعَيَّنُ لا يَقبَلُ البَدَلَ، والجَمعُ بَينَهما مُحالٌ
[3777] يُنظر: ((الذخيرة)) (2/38)، ((الفروق)) (2/134) كلاهما للقرافي، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (31/18)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/391). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ بَعضِ نِسائِه، فأرسَلَت إحدى أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ بصَحفةٍ فيها طَعامٌ، فضَرَبَتِ التي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيتِها يَدَ الخادِمِ، فسَقَطَتِ الصَّحفةُ فانفَلَقَت، فجَمَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِلَقَ الصَّحفةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجمَعُ فيها الطَّعامَ الذي كان في الصَّحفةِ، ويَقولُ: غارَت أُمُّكُم. ثُمَّ حَبَسَ الخادِمَ حَتَّى أُتيَ بصَحفةٍ مِن عِندِ التي هو في بَيتِها، فدَفَعَ الصَّحفةَ الصَّحيحةَ إلى التي كُسِرَت صَحفَتُها، وأمسَكَ المَكسورةَ في بَيتِ التي كَسَرَت )) [3778] أخرجه البخاري (5225). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الحَديثِ بَيانُ لُزومِ الضَّمانِ على مَن أتلَفَ مالَ أحَدٍ؛ فقد غَرَّمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الضَّارِبةَ ببَدَلِ الصَّحفةِ؛ لأنَّها انكَسَرَت بسَبَبِ ضَربِها يَدَ الخادِمِ عُدوانًا
[3779] يُنظر: ((المنتقى)) للباجي (5/272)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للزيداني (3/479)، ((شرح المشكاة)) للطيبي (7/2189). ، ولَمَّا تَعَذَّرَ رَدُّ الصَّحفةِ المُعَيَّنةِ بذاتِها رَدَّ بَدَلًا مِنها.
2- مِنَ الإجماعِ:وقد حَكاه القَرافيُّ في صورةٍ مِن صورِ القاعِدةِ، وهيَ أنَّ مَن بَلَغَ وهو في حالةِ جُنونٍ مُطبِقٍ، فإنَّه لا يَجِبُ عليه قَضاءُ الصَّلاةِ؛ حَيثُ إنَّ الأداءَ مُعَيَّنٌ بوقتٍ فلَم يَستَقِرَّ في ذِمَّتِه
[3780] قال: (اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ على أنَّ مَن بَلَغَ مُطبِقًا أنَّهُ لا يَقضي شَيئًا). ((الذخيرة)) (2/39). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- الصَّلاةُ لا يَنتَقِلُ الأداءُ فيها إلى الذِّمَّةِ إلَّا إذا خَرَجَ وقتُها؛ لأنَّها مُعَيَّنةٌ بوقتِها، والقَضاءُ ليس له وقتٌ مُعَيَّنٌ يَتَغَيَّرُ حُكمُه بخُروجِه، فهو في الذِّمَّةِ، والقاعِدةُ أنَّ مِن شَرطِ الانتِقالِ إلى الذِّمَّةِ تَعَذُّرَ المُعَيَّنِ
[3781] يُنظر: ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/391). ويُنظر أيضًا: ((تهذيب الفروق)) لمحمد علي حسين (2/152). .
2- الزَّكاةُ ما دامَت مُعَيَّنةً بوُجودِ نِصابِها لا تَكونُ في الذِّمَّةِ؛ لأنَّ مِن شَرطِ الانتِقالِ إلى الذِّمَّةِ تَعَذُّرَ المُعَيَّنِ، فمِن حَيثُ إنَّها حَقٌّ واجِبٌ في المالِ المُعَيَّنِ لا تَكونُ إلَّا حَقًّا مُعَيَّنًا، فلا تَكونُ في الذِّمَّةِ ما وُجِدَ نِصابُها، فإذا تَلِفَ النِّصابُ بعُذرٍ لَم يَنتَقِلِ الحَقُّ الواجِبُ -لتَعَيُّنِه- إلى الذِّمَّةِ، فلا يَضمَنُ مالِكُ النِّصابِ حينَئِذٍ نَصيبَ الفُقَراءِ، وإذا تَلِفَ بغَيرِ عُذرٍ تَرَتَّبَ الحَقُّ الواجِبُ في الذِّمَّةِ، فيَضمَنُ مالِكُ النِّصابِ حينَئِذٍ نَصيبَ الفُقَراءِ
[3782] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (2/38)، ((تهذيب الفروق)) لمحمد علي حسين (2/152)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/392). .
3- إذا استَأجَرَ دابَّةً مُعَيَّنةً للحَملِ أو غَيرِه فاستُحِقَّت أو ماتَت، انفَسَخَ العَقدُ، ولَوِ استَأجَرَ مِنه حَملَ هذا المَتاعِ مِن غَيرِ تَعيينِ دابَّةٍ أو على أن يَركَبَها إلى مَوضِعٍ مُحَدَّدٍ مِن غَيرِ تَعيينِ مَركوبٍ مُعَيَّنٍ، فعَيَّنَ له لجَميعِ ذلك دابَّةً مُعَيَّنةً للحَملِ ولِرُكوبِه، فعَطِبَت أوِ استُحِقَّت فلَه الرُّجوعُ إلَيه لمُطالَبَتِه بغَيرِها؛ لأنَّ المَعقودَ عليه غَيرُ مُعَيَّنٍ في الذِّمَّةِ، فيَجِبُ عليه الخُروجُ عنه بكُلِّ مُعَيَّنٍ شاءَ؛ فإنَّ المَطلوبَ مَتى كان في الذِّمَّةِ فإنَّ لمَن هو عليه أن يَتَخَيَّرَ بَينَ الأمثالِ أو يُعطيَ أيَّ مِثلٍ شاءَ
[3783] يُنظر: ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/391). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ: التَّعامُلُ بالنَّقدَينِ (الذَّهَبِ والفِضَّةِ)؛ فإنَّه لا يَتَعَيَّنُ النَّقدانِ بالتَّعيينِ، وإنَّما تَقَعُ المُعامَلةُ بهما على الذِّمَمِ وإن عُيِّنَتِ النُّقودُ، إلَّا أن تَختَصَّ بأمرٍ يَتَعَلَّقُ به الغَرَضُ كَشُبهةٍ في أحَدِهما أو سِكَّةٍ رائِجةٍ دونَ النَّقدِ الآخَرِ. فلَو غَصَبَ غاصِبٌ دينارًا مُعَيَّنًا فلَه أن يُعطيَ غَيرَه مِثلَه في المَحَلِّ، ويَمنَعَ رَبَّه مِن أخذِ ذلك المُعَيَّنِ المَغصوبِ. وعَلَّلَ ذلك المالِكيَّةُ بأنَّ خُصوصاتِ الدَّنانيرِ والدَّراهمِ لا تَتَعَلَّقُ بها الأغراضُ، فسَقَطَ اعتِبارُها في نَظَرِ الشَّرعِ، فإنَّ صاحِبَ الشَّرعِ إنَّما يَعتَبِرُ ما فيه نَظَرٌ صَحيحٌ. والفَرقُ بَينَ النَّقدَينِ وغَيرِهما أنَّهما وسائِلُ لتَحصيلِ الأغراضِ مِنَ السِّلَعِ، والمَقاصِدُ إنَّما هيَ السِّلَعُ، وإذا كانتِ السِّلَعُ مَقاصِدَ وقَعَتِ المُشاحَنةُ مِن تَعييناتِها، بخِلافِ الوسائِلِ
[3784] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/135). .