موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الأصلُ بَراءةُ الذِّمَمِ مِنَ الحُقوقِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: الأصلُ بَراءةُ الذِّمَمِ مِنَ الحُقوقِ [3695] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (2/432)، ((المفهم)) للقرطبي (5/148)، ((الذخيرة)) للقرافي (5/458)، ((المعين)) لابن الملقن (ص: 387)، ((الفتح المبين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 538). ، وصيغةِ: الأصلُ بَراءةُ الذِّمَمِ مِنَ الواجِباتِ ومِن حُقوقِ الخَلقِ، حَتَّى يَقومَ الدَّليلُ على خِلافِ ذلك [3696] يُنظر: ((رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة)) للسعدي (ص: 101). ، وصيغةِ: الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ مِنَ الحُقوقِ، والعِباداتِ، وتَحَمُّلِ المَشاقِّ [3697] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/68). ، وصيغةِ: الأصلُ بَراءةُ الذِّمَمِ عنِ الدُّيونِ والحُقوقِ [3698] يُنظر: ((التلخيص)) لأبي المعالي الجويني (3/293). ، وصيغةِ: الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ، فلا يَجوزُ أن يَشغَلَها إلَّا بدَليلٍ [3699] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (3/1434). ، وصيغةِ: الأصلُ بَراءةُ الذِّمَمِ مِن لُزومِ جَميعِ الأشياءِ إلَّا ما ألزَمَنا إيَّاه نَصٌّ أو إجماعٌ [3700] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (5/44). ، وصيغةِ: الأصلُ بَراءةُ الذِّمَمِ فلا تُعمَرُ إلَّا بمُحَقَّقٍ لا بمَشكوكٍ فيه أو مُحتَمَلٍ [3701] يُنظر: ((لوامع الدرر)) للمجلسي (10/271). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُعَدُّ هذه القاعِدةُ أصلًا يُرجَعُ إلَيه عِندَ التَّنازُعِ والخِصامِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ مِن جَميعِ الحُقوقِ والغَراماتِ؛ لأنَّها خُلِقَت بَريئةً عَريَّةً عنِ الحُقوقِ، فلا يَجوزُ شَغلُها إلَّا بحُجَّةٍ قَويَّةٍ، فلا يُحكَمُ لأحَدٍ بدَعواه -وإن كان فاضِلًا شَريفًا- بحَقٍّ مِنَ الحُقوقِ -وإن كان مُحتَقَرًا يَسيرًا- حَتَّى يَستَنِدَ المُدَّعي إلى ما يُقَوِّي دَعواه، وإلَّا فالدَّعاوى مُتَكافِئةٌ، فلا بُدَّ مِمَّا يَدُلُّ على تَعَلُّقِ الحَقِّ بالذِّمَّةِ حَتَّى تَتَرَجَّحَ به الدَّعوى، ومَنِ ادَّعى اشتِغالَها بشَيءٍ مِنَ الحُقوقِ والواجِباتِ فعليه الدَّليلُ [3702] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (2/68)، ((المفهم)) للقرطبي (5/148)، ((تهذيب سنن أبي داود)) لابن القيم (2/490)، ((الفتح المبين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 538)، ((نتائج الأفكار)) لقاضي زاده (8/343). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ، والاستِصحابِ، والقَواعِدِ:
1 من القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: ... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عليْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تَعالى نَدَبَ إلى الإشهادِ وحَرَّضَ عليه؛ لِما فيه مِن مَنعِ التَّظالُمِ بالجُحودِ أو بالنِّسيانِ، وبَراءةِ الذِّمَمِ بَعدَ المَوتِ؛ فإنَّ الإشهادَ فيه حَظٌّ لصاحِبِ الحَقِّ، وهو أن يَصِلَ إلى حَقِّه. ولِمَن عليه الحَقُّ؛ لأنَّه يَمتَنِعُ عنِ الجُحودِ إذا كان عليه شُهودٌ، ولَو نَسيَ ذَكَّروه، ولَو اختَرَمَته المَنيَّةُ أُرضيَ صاحِبُ الحَقِّ مِن تَرِكَتِه بشَهادَتِهم، ولا تَبقى ذِمَّتُه مُرتَهَنةً بالحَقِّ [3703] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (19/80). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَو يُعطى النَّاسُ بدَعواهم لادَّعى ناسٌ دِماءَ رِجالٍ وأموالَهم، ولَكِنَّ اليَمينَ على المُدَّعى عليهـ)) [3704] أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
هذا الحَديثُ قاعِدةٌ عَظيمةٌ مِن قَواعِدِ الشَّرعِ، وأصلٌ مِن أُصولِ الأحكامِ، وأعظَمُ مَرجِعٍ عِندَ التَّنازُعِ والخِصامِ، يَقتَضي ألَّا يُحكَمَ لأحَدٍ بدَعواه -وإن كان فاضِلًا شَريفًا- بحَقٍّ مِنَ الحُقوقِ -وإن كان مُحتَقَرًا يَسيرًا- حَتَّى يَستَنِدَ المُدَّعي إلى ما يُقَوِّي دَعواه، وإلَّا فالدَّعاوى مُتَكافِئةٌ، والأصلُ: بَراءةُ الذِّمَمِ مِنَ الحُقوقِ، فلا بُدَّ مِن تَوفُّرِ ما يَدُلُّ على تَعَلُّقِ الحَقِّ بالذِّمَّةِ حَتَّى تَتَرَجَّحَ به الدَّعوى [3705] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (5/148)، ((الفتح المبين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 538). .
3- مِنَ الاستِصحابِ:
وهو أنَّ استِصحابَ حُكمِ العَقلِ في بَراءةِ الذِّمَمِ واجِبٌ حَتَّى يَقومَ الدَّليلُ على الوُجوبِ، وإنَّما وجَبَ استِصحابُ بَراءةِ الذِّمَّةِ؛ لأنَّ دَليلَ العَقلِ في بَراءةِ الذِّمَمِ قائِمٌ في مَوضِعِ الخِلافِ، فوجَبَ استِصحابُ حُكمِه [3706] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1267)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 529)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/37). .
وقد نَقَلَ ابنُ عَقيلٍ الاتِّفاقَ على ذلك [3707] قال: (استِصحابُ الحالِ في بَراءةِ الذِّمَمِ بدَليلِ العَقلِ مُتَّفَقٌ عليه في الجُملةِ فيما لَم يَتَناوَلْه دَليلٌ شَرعيٌّ، ثُمَّ إذا ورَدَ دَليلٌ شَرعيٌّ نُقِلَ عَنه، وإن كان الدَّليلُ مُختَلَفًا فيهـ). ((الواضح)) (3/455). .
4- مِنَ القواعِدِ:
فيُستَدَلُّ لَها بالقاعِدةِ الكُبرى: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، فالحُكمُ يُبنى في الدَّعاوى على اليَقينِ، وهو بَراءةُ الذِّمَمِ، ولا تُقبَلُ الدَّعوى حَتَّى تَظهَرَ شَهادةُ الشُّهودِ، فيُرجَعُ عن ذلك إلى قَولِهما [3708] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة - من الصلاة للجنائز)) لأبي يعلى (1/390). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا اختَلَفَ المُتَبايِعانِ فالقَولُ ما قال البائِعُ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُ التَّبايُعِ، فمَنِ ادَّعى البَيعَ فهو المُدَّعي، والأصلُ بَقاءُ المِلكِ وزَوالُه مَشكوكٌ فيه. وهذا شَأنُ جَميعِ العُقودِ التي يَدَّعيها بَعضُ النَّاسِ على بَعضٍ، فالأصلُ عَدَمُ ما يَدَّعيه الإنسانُ على غَيرِه مِن سائِرِ الدَّعاوى؛ لأنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ [3709] يُنظر: ((روضة القضاة)) لابن السمناني (1/352). .
2- يَجوزُ التَّعجيلُ في سَدادِ القَرضِ، وإن كَرِهَ صاحِبُه؛ لأنَّ التَّعجيلَ يُفضي إلى بَراءةِ الذِّمَمِ، والشَّارِعُ له تَطَلُّعٌ إلى بَراءةِ الذِّمَمِ مِنَ الدُّيونِ [3710] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (5/302)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/684). .
3- إذا ادَّعى الزَّوجُ الإعسارَ، ودَفَعَ نَفَقةَ مُعسِرٍ، وادَّعَتِ الزَّوجةُ يَسارَه وطالَبَته بنَفَقةِ موسِرٍ، فالقَولُ قَولُ الزَّوجِ مَعَ يَمينِه، ما لَم يَتَحَقَّقْ يَسارُه؛ لأنَّ الأصلَ في النَّاسِ العَدَمُ حَتَّى يوجَدَ اليَسارُ، ولأنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ حَتَّى يُعلَمَ الاستِحقاقُ، فلِهَذَينِ الأصلَينِ قُبِلَ قَولُه في الإعسارِ، وأُحلِفَ عليه؛ لجَوازِ أن يَطرَأَ عليه اليَسارُ [3711] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/447). .

انظر أيضا: