موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: يَجوزُ مِنَ الحيَلِ ما كان مُباحًا يُتَوصَّلُ به إلى مُباحٍ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: يَجوزُ مِنَ الحيَلِ ما كان مُباحًا يُتَوصَّلُ به إلى مُباحٍ [3673] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/95). ، وصيغةِ: كُلُّ حيلةٍ توصِّلَ بها إلى السَّلامةِ مِنَ الإثمِ فهيَ جائِزةٌ [3674] يُنظر: ((نيل الأوطار)) للشوكاني (10/348). ، وصيغةِ: كُلُّ حيلةٍ يَحتالُ بها الرَّجُلُ ليَتَخَلَّصَ بها عن حَرامٍ أو ليَتَوصَّلَ بها إلى حَلالٍ فهيَ حَسَنةٌ [3675] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (4/219)، ((الفتاوى الهندية)) (6/390). ، وصيغةِ: ما كان مِنَ الحيَلِ ليس فيه إسقاطُ حَقٍّ لمُستَحِقٍّ له فهو حَسَنٌ مَشروعٌ [3676] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (2/21)، ((ذخيرة العقبى)) لمحمد علي الإتيوبي (2/256). ، وصيغةِ: ما يَتَخَلَّصُ به الرَّجُلُ مِنَ الحَرامِ أو يَتَوصَّلُ به إلى الحَلالِ مِنَ الحيَلِ فهو حَسَنٌ [3677] يُنظر: ((المخارج في الحيل)) للشيباني (ص: 94). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الحيَلَ لا تَحرُمُ في جَميعِ الأحوالِ، وإنَّما يَحِلُّ مِنها ما كان مُباحًا يُتَوصَّلُ به إلى مُباحٍ، فالحيَلُ التي أباحَتها الشَّريعةُ هيَ تَحَيُّلُ الإنسانِ بفِعلٍ مُباحٍ على تَخَلُّصِه مِن ظُلمِ غَيرِه وأذاه، لا الاحتيالُ على إسقاطِ فرائِضِ اللهِ واستِباحةِ مَحارِمِه. فكُلُّ طَريقٍ مَشروعٍ يَتَرَتَّبُ على سُلوكِه تَحقيقُ مَقاصِدِ الشَّارِعِ مِن فِعلِ ما أمَرَ اللهُ به واجتِنابِ ما نَهى اللهُ عنه وإقامةِ الحَقِّ وقَمعِ الباطِلِ- فهذا جائِزٌ مَشروعٌ.
فالحيلةُ مُعتَبَرةٌ بالأمرِ المُحتالِ بها عليه إطلاقًا ومَنعًا، ومَصلَحةً ومَفسَدةً، وطاعةً ومَعصيةً: فإن كان المَقصودُ أمرًا حَسَنًا كانتِ الحيلةُ حَسَنةً، وإن كان قَبيحًا كانتِ الحيلةُ قَبيحةً، وإن كان طاعةً وقُربةً كانتِ الحيلةُ عليه كذلك، وإن كانت مَعصيةً وفُسوقًا كانتِ الحيلةُ عليه كذلك [3678] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (1/657 وما بعدها)، ((الطرق الحكمية)) (1/91) كلاهما لابن القيم، ((المنثور)) للزركشي (2/95)، ((الحيل)) للمسعودي (ص: 114). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ: (الحيَلُ لا تُحيلُ الحُقوقَ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ ما كان مُباحًا يُتَوصَّلُ به إلى مُباحٍ، فإنَّه ليس مِن بابِ الحيَلِ المُحَرَّمةِ التي تُحيلُ الحُقوقَ، وإنَّما يُتَوصَّلُ به إلى تَحقيقِ مَقاصِدِ الشَّارِعِ، فكان جائِزًا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ:
1- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 15-16] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ كُلًّا مِنَ التَّحَرُّفِ والتَّحَيُّزِ حيلةٌ ظاهرُها الهَزيمةُ والفِرارُ، وباطِنُها والمَقصودُ مِنها التَّمَكُّنُ مِنَ الكُفَّارِ على أبلَغِ وجهٍ، وذلك إمَّا بالكَرِّ بَعدَ الفَرِّ، وإمَّا بتَقويةِ الانحيازِ إلى الفِئةِ الأُخرى حَتَّى يَكونَ النَّصرُ أرجى. وهذه حيلةٌ جائِزةٌ مَشروعةٌ، بَل واجِبةٌ إذا رُئيَ مِنها أنَّها تَدفَعُ الهَزيمةَ وتُحَقِّقُ النَّصرَ على الأعداءِ، ولِما يَتَرَتَّبُ عليها مِن إعلاءِ كَلِمةِ اللهِ، وتَقويةِ المُسلِمينَ، وإذلالِ المُشرِكينَ [3679] يُنظر: ((الحيل)) للمسعودي (ص: 153). .
2- قال اللهُ تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعليْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106]
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على جَوازِ التَّحَيُّلِ للتَّخَلُّصِ مِنَ الأذى الشَّديدِ، ودَفعِه عنِ النَّفسِ، ولَو أدَّى ذلك إلى التَّلَفُّظِ بكَلِمةِ الكُفرِ مَعَ اطمِئنانِ القَلبِ بالإيمانِ [3680] يُنظر: ((الحيل)) للمسعودي (ص: 157). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- يَجوزُ للإنسانِ أن يُظهرَ قَولًا أو فِعلًا مَقصودُه به مَقصودٌ صالِحٌ، وإن كان ظاهرُه خِلافَ ما قَصَدَ به، إذا كانت فيه مَصلَحةٌ دينيَّةٌ، مِثلُ دَفعِ الظُّلمِ عن نَفسِه أو غَيرِه، أو إبطالِ حيلةٍ مُحَرَّمةٍ؛ لأنَّ مَقصودَه التَّوصُّلُ إلى إظهارِ دينِ اللهِ، ودَفعِ مَعصيَتِه، وإبطالِ الظُّلمِ، وإزالةِ المُنكَرِ [3681] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/662). .
2- التَّأويلُ في اليَمينِ إذا كان مِن مَظلومٍ مُحتاجٍ فإنَّه يَنفَعُه تَأويلُه، ويُخَلِّصُه مِنَ الإثمِ، ويَكونُ اليَمينُ على نيَّتِه، كَأن يَستَحلِفَه ظالِمٌ بأيمانِ المُسلِمينَ، فتَأوَّلَ الأيمانَ بجَمعِ يَمينٍ، وهيَ اليَدُ، أو حَلَّفَه بأنَّ كُلَّ امرَأةٍ له طالِقٌ، فتَأوَّلَ أنَّها طالِقٌ مِن وَثاقٍ أو طالِقٌ عِندَ الوِلادةِ، ونَحوُ ذلك [3682] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/663). .
3- مَن زَرَعَ أرضَه، ثُمَّ أرادَ أن يُؤَجِّرَها، والزَّرعُ قائِمٌ، لَم يَجُزْ؛ لتَعَذُّرِ انتِفاعِ المُستَأجِرِ بالأرضِ. وطَريقُ تَصحيحِ ذلك: أن يَبيعَه الزَّرعَ، ثُمَّ يُؤَجِّرَه الأرضَ [3683] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/672). .
4- إذا اشتَرى دارًا أو أرضًا، وخافَ أن تَخرُجَ وقفًا أو مُستَحَقَّةً لغَيرِه فتُؤخَذَ مِنه هيَ وأُجرَتُها، فالحيلةُ: أن يَضمَنَ البائِعُ أو غَيرُه دَرَكَ المَبيعِ، وأنَّه ضامِنٌ لِما غَرِمَه المُشتَري مِن ذلك، ويَصِحُّ ضَمانُ الدَّرَكِ، حَتَّى عِندَ مَن يُبطِلُ ضَمانَ المَجهولِ، وضَمانَ ما لَم يَجِبْ؛ للحاجةِ إلى ذلك [3684] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/675). .
5- إذا حَضَرَه المَوتُ، ولِبَعضِ ورَثَتِه عليه دَينٌ، وأرادَ تَخليصَ ذِمَّتِه، فإن أقَرَّ له به لَم يَصِحَّ إقرارُه، وإن وصَّى له به كانت وصيَّةً لوارِثٍ. فالحيلةُ في خَلاصِه: أن يواطِئَه على أن يَأتيَ بمَن يَثِقُ به، فيُقِرَّ له بذلك الدَّينِ، فإذا قَبَضَه أوصَلَه إلى مُستَحِقِّه [3685] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/697). .

انظر أيضا: