موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: الاحتيالُ على إبطالِ الحُقوقِ الثَّابِتةِ حَرامٌ


استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: الاحتيالُ على إبطالِ الحُقوقِ الثَّابِتةِ حَرامٌ [3659] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/315). ، وصيغةِ: كُلُّ حيلةٍ تَتَضَمَّنُ إسقاطَ حَقٍّ للَّهِ أو لآدَميٍّ، فهيَ مِمَّا يُستَحَلُّ بها المَحارِمُ [3660] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/659). ، وصيغةِ: ما أدَّى مِنَ الحيَلِ إلى إسقاطِ حَقِّ الغَيرِ فهو مَذمومٌ مَنهيٌّ عنه [3661] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (2/21)، ((ذخيرة العقبى)) لمحمد علي الإتيوبي (2/256). ، وصيغةِ: كُلُّ حيلةٍ يَحتالُ بها الرَّجُلُ لإبطالِ حَقِّ الغَيرِ، أو لإدخالِ شُبهةٍ فيه أو لتَمويهِ باطِلٍ فهيَ مَكروهةٌ [3662] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (4/219)، ((الفتاوى الهندية)) (6/390). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الشَّيءَ الذي هو في نَفسِه غَيرُ مُحَرَّمٍ، إذا قُصِدَ به أمرٌ مُحَرَّمٌ صارَ مُحَرَّمًا، وكَذا الحيلةُ بفِعلِ المَحظورِ ليَصِلَ به إلى المُباحِ، لا يَجوزُ.
وإذا كان الشَّارِعُ قد حَرَّمَ المُحَرَّماتِ لمَفاسِدَ فيها فإنَّ المَفسَدةَ لا تَزولُ بالحيلةِ، بَل هيَ بحالِها، وانضَمَّ إلَيها مَفسَدةٌ أُخرى أعظَمُ مِنها، وهيَ مَفسَدةُ المَكرِ والخِداعِ واتِّخاذِ أحكامِ اللهِ هُزُوًا، وهيَ أعظَمُ المَفسَدَتَينِ. وهَكَذا الحيَلُ، لا تُزيلُ المَفسَدةَ التي حُرِّمَ لأجلِها، وإنَّما يَضُمُّ إلَيها مَفسَدةَ الخِداعِ والمَكرِ [3663] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (4/282)، ((إغاثة اللهفان)) (1/642) كلاهما لابن القيم، ((المنثور)) للزركشي (2/95). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ مِن قاعِدةِ: (الحيَلُ لا تُحيلُ الحُقوقَ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ الحيَلَ التي يُقصَدُ بها إبطالُ الحُقوقِ الثَّابِتةِ وإسقاطُها تَكونُ مُحَرَّمةً؛ لأنَّ الحيَلَ لا تُحيلُ الحُقوقَ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (لا رَيبَ أنَّ مَن تَدَبَّرَ القُرآنَ والسُّنَّةَ ومَقاصِدَ الشَّارِعِ جَزَمَ بتَحريمِ الحيَلِ وبُطلانِها؛ فإنَّ القُرآنَ دَلَّ على أنَّ المَقاصِدَ والنِّيَّاتِ مُعتَبَرةٌ في التَّصَرُّفاتِ والعاداتِ، كما هيَ مُعتَبَرةٌ في القُرُباتِ والعِباداتِ، فتَجعَلُ الفِعلَ حَلالًا أو حَرامًا، وصَحيحًا أو فاسِدًا، وصَحيحًا مِن وجهٍ فاسِدًا مِن وجهٍ، كما أنَّ القَصدَ والنِّيَّةَ في العِباداتِ تَجعَلُها كذلك. وشَواهدُ هذه القاعِدةِ كَثيرةٌ جِدًّا في الكِتابِ والسُّنَّةِ) [3664] ((إغاثة اللهفان)) (1/642). .
1- من القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عنْ مَا نُهُوا عنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف: 163-166] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على أنَّ الحيَلَ لا تَجعَلُ الحَرامَ حَلالًا؛ فإنَّ اللَّهَ تَعالى قد حَرَّمَ عليهم صَيدَ السَّمَكِ يَومَ السَّبتِ، وكان السَّمَكُ لا يَدخُلُ المَوضِعَ الذي يَصطادونَه فيه إلَّا يَومَ السَّبتِ، فاحتالوا بأن وضَعوا الشِّبَاكَ يَومَ الجُمُعةِ، فدَخَلَ السَّمَكُ يَومَ السَّبتِ وأخَذوه يَومَ الأحَدِ، فمَسَخَ اللهُ تَعالى هَؤُلاءِ الذينَ استَحَلُّوا مَحارِمَه بالحيَلِ قِرَدةً جَزاءً مِن جِنسِ عَمَلِهم؛ فإنَّهم لَمَّا مَسَخوا شَرعَه وغَيَّروه عن وَجهِه مَسَخَ وُجوهَهم وغَيَّرَها عن خِلقَتِها [3665] يُنظر: ((بيان الدليل)) لابن تيمية (ص: 41)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/45)، ((المنثور)) للزركشي (2/96). .
- وقال اللهُ تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء: 12] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتَعالى قدَّمَ على الميراثِ وصيَّةَ مَن لَم يُضارَّ الورَثةَ بها، فإذا كانتِ الوصيَّةُ وصيَّةَ ضِرارٍ كانت حَرامًا، وكان للوارِثِ إبطالُها، وحَرُمَ على الموصى له أخذُ ذلك بدونِ رِضا الورَثةِ [3666] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/642). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَرتَكِبوا ما ارتَكَبَتِ اليَهودُ فتَستَحِلُّوا مَحارِمَ اللهِ بأدنى الحيَلِ )) [3667] أخرجه ابن بطة في ((إبطال الحيل)) (ص47). صححه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (19/230)، وجوَّد إسنادَه ابنُ تيمية في ((بيان الدليل)) (86)، وابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/513)، وابن كثير في ((التفسير)) (3/492)، وحسنه السخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (1/214). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على التَّحذيرِ مِن فِعلِ الماكِرِ المُخادِعِ المُحتالِ على قَلبِ دينِ اللهِ تَعالى، وهو مِن جِنسِ حيَلِ اليَهودِ، فإنَّهم إنَّما استَحَلُّوا المَحارِمَ بالحيَلِ، فنَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك [3668] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/29)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/49). .
- وعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ عامَ الفَتحِ وهو بمَكَّةَ: ((إنَّ اللَّهَ ورَسولَه حَرَّمَ بَيعَ الخَمرِ والمَيتةِ والخِنزيرِ والأصنامِ، فقيلَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ شُحومَ المَيتةِ؛ فإنَّها يُطلى بها السُّفُنُ، ويُدهَنُ بها الجُلودُ، ويَستَصبِحُ بها النَّاسُ؟ فقال: لا، هو حَرامٌ، ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ ذلك: قاتَلَ اللهُ اليَهودَ؛ إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحومَها جَمَلوه، ثُمَّ باعوه، فأكَلوا ثَمَنَه )) [3669] أخرجه البخاري (2236) واللفظ له، ومسلم (1581). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه: ((جَمَلوهـ)) مَعناه أذابوه حَتَّى يَصيرَ ودَكًا فيَزولَ عنه اسمُ الشَّحمِ. ففي الحَديثِ دَلالةٌ على بُطلانِ كُلِّ حيلةٍ يُتَوصَّلُ بها إلى مُحَرَّمٍ، وأنَّه لا يَتَغَيَّرُ حُكمُه بتَغَيُّرِ هَيئَتِه وتَبديلِ اسمِه [3670] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/133)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/44)، ((المنثور)) للزركشي (2/96). .
3- مِنَ القواعِدِ:
فيُستَدَلُّ لَها بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الحيَلُ لا تُحيلُ الحُقوقَ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- الحيَلُ لا تُحِلُّ الرِّبا، وجِماعُ الحيَلِ فيه نَوعانِ: إمَّا أن يَضُمُّوا إلى أحَدِ العِوضَينِ ما ليس بمَقصودٍ، أو يَضُمُّوا إلى العَقدِ عَقدًا ليس بمَقصودٍ.
فالأوَّلُ: مَسألةُ "مُدِّ عَجوةٍ"، وضابِطُها: أن يَبيعَ رِبَويًّا بجِنسِه ومَعَهما أو مَعَ أحَدِهما ما ليس مِن جِنسِه، مِثلُ أن يَكونَ غَرَضُهما بَيعَ فِضَّةٍ بفِضَّةٍ مُتَفاضِلًا، ونَحو ذلك، فيَضُمَّ إلى الفِضَّةِ القَليلةِ عِوضًا آخَرَ، حَتَّى يَبيعَ ألفَ دينارٍ في مِنديلٍ بألفَي دينارٍ. فمَتى كان المَقصودُ بَيعَ الرِّبَويِّ بجِنسِه مُتَفاضِلًا حَرُمَت مَسألةُ "مُدِّ عَجوةٍ". 
والثَّاني مِنَ الحيَلِ: أن يَضُمَّ المُتَعاقِدانِ إلى العَقدِ المُحَرَّمِ عَقدًا غَيرَ مَقصودٍ، مِثلُ أن يَتَواطَآ على أن يَبيعَه الذَّهَبَ بخَرَزةٍ، ثُمَّ يَبتاعَ الخَرَزَ مِنه بأكثَرَ مِن ذلك الذَّهَبِ، أو يواطِئا ثالِثًا على أن يَبيعَ أحَدُهما عَرضًا، ثُمَّ يَبيعَه المُبتاعُ للمُرابي، ثُمَّ يَبيعَه المُرابي لصاحِبِه. فهذا ونَحوُه مِنَ الحيَلِ لا تَزولُ به المَفسَدةُ التي حَرَّمَ اللهُ مِن أجلِها الرِّبا [3671] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/28). .
2- لا يَحِلُّ للزَّوجِ أن يَعضُلَ زَوجَتَه، فإن عَضَلَ زَوجَتَه، وضارَّها بالضَّربِ والتَّضييقِ عليها، أو مَنَعَها حُقوقَها؛ مِنَ النَّفَقةِ، والقَسْمِ، ونَحوِ ذلك، لتَفتَديَ نَفسَها مِنه، ففَعَلَت، فالخُلعُ باطِلٌ، والعِوضُ مَردودٌ، ولا يَحِلُّ للزَّوجِ ما أخَذَه مِن حُقوقِ زَوجَتِه [3672] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/272)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (22/12). .

انظر أيضا: